أنت هنا

قراءة كتاب وداد من حلب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وداد من حلب

وداد من حلب

كتاب " وداد من حلب " ، تأليف قحطان مهنا ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

تدبُّ الحياة في سوق المدينة في حلب رويداً رويداً.. وهي تبدأ بعد صلاة الفجر بقليل, كان أبو محمود أوَّل من يفتح محلَّهُ هو وصانعه, أما جاره أبو أحمد فقد كان آخر القادمين.

كان محلُّ أبو محمود متواضعاً يبيع فيه الأقمشة متوسطة الأسعار قليلة التنوع.. ولكنَّه كان كثير الزبائن, أمَّا جاره أبو أحمد فكان محُّله عامراً بالأقمشة الفاخرة مع تنوُّع كبير وزبائن أقلّ, كان يملك مكتباً خشبياً جميلاً في صدر الدُّكان, يضع عليه هاتفاً نصف آليٍّ يستخدمه في عقد الصفقات مع تُجَّار المدن الأخرى.. حماة.. حمص.. الشام.. و بيروت, وكانت له صلات حتى مع تجار في بغداد.

كانا جارين متحابين في السوق رغم الفوارق بينهما.. التي كانت تتعدى قوَّةَ أبي أحمد المالية لتصل إلى الناحية الثقافية, وكان السبب في ذلك المدرسة, فقد ارتادها أبو أحمد لمدة عشر سنوات تقريباً, وكاد يصل إلى سنته الأخيرة فيها لولا مرض أبيه المفاجئ.. الأمر الذي اضطرَّه لترك المدرسة والمواظبة في المحلّ مع والده العليل.. الذي لم يلبث أن فارق الحياة بعد أن أصرَّ على تزويجه من ابنةِ عمِّه, وكان عمره حينها ثماني عشرة سنة.

أما أبو محمود فقد اكتفى بالكتَّاب لسنوات قليلة قبل أن ينضم إلى والده في المحلّ, لكن سرعان ما أصابه ما أصاب جاره.. فقد توفي والده أيضاً في العام نفسه.. جمعهما المصاب أكثر, قرَّبتهما من بعضهما رهبة الموت ورهبة المسؤوليَّة الجديدة في هذه السن المبكرة, وكان هناك أمر آخر مشترك بينهما, فالاثنان ولدا مع بداية القرن.. القرن العشرين وبالتحديد عام 1901, كانا وفيين لبعضهما بعضاً لا تشوب علاقتهما أية شائبة.. غيرة أو خلاف, حتى أنَّ زواج أبي محمود تمَّ بترتيبٍ من صديقه أبي أحمد, إذ انتقى له زوجةً من قريباته البعيدات , وكان انتقاءً موفَّقاً بكل معايير تلك الأيام.

عندما بلغا الثلاثين من عمرهما فاجأ أبو أحمد صديقه وكانا جالسين أمام محلَّيهما بالقول:

ـ أنا سأتزوج.

ـ تتزوج؟!.. ممن؟!..

ـ لا أعرف.

نظر إليه أبو محمود مندهشاً, فقال أبو أحمد :

يا صاحبي الذي تزوج وعمره ثماني عشرة سنة شخص لاأكاد أعرفه , إنَّهُ شخص آخر، يحمل اسمي.. صحيح , وبعض صفاتي.. صحيح , ولكنِّه الآن شخصٌ آخر تماماً, لا أعرفه ولا يعرفني, وكي أُصدِقكَ فإنَّه لا يعجبني, وأشكُّ في أنني أعجبه.

ابتسم أبو محمود وقال:

ـ لماذا عليك أن تفلسف الأمور دائماً؟.. قل إنَّ نفسك تراودك على الزواج من امرأة ثانية.. وهذا حقُّك.. مال وشباب..

ـ والله العظيم الموضوع ليس كذلك.. الموضوع كلَّه يتلخص بكلمتين: أريد أن أختار, من تزوَّجتها على الرأس والعين , ولكنهم اختاروها لي. . أريد الآن أن أتزوج ممن أختارها أنا.. أتعرَّف عليها.. أجالسها.. أسألها رأيها..

ـ ماذا؟!.. أنت تحلم؟!.. هنا في حلب, وفي هذه الأيام؟!..

كان أبو أحمد ـ واسمه رأفت ـ شابّاً وسيماً.. طويلاً.. نحيلاً, ذا مشية واثقة منتصبة, وكان قد بدأ بارتداء البنطلون والجاكيت من دون ربطة عنق, يضع على رأسه طربوشاً أنيقاً سرعان ما تخلَّى عنه عندما بدأ يستعمل كريم «البريانطين» على شعره, أما في السوق فكان يعود إلى الطربوش مرتدياً قنبازاً مخططاً وحذاءً عصرياً يستبدل به ـ ما أن يدخل المحل ـ صرماية حمراء نظيفة ومريحة, كان قارئاً جيداً مذ كان صغيراً.. في البداية شُغفَ بروايات الأدب العالمي.. فقرأ منها الكثير, ثمَّ اتَّجه إلى التاريخ فبهره وأغناه بثروة معرفية لا تضاهى, وكان حلم حياته أن يؤسس مكتبة مميزة في مكان مميز فيجمع بين متعته وتجارته بالكتب.

ما هي إلا أشهر قليلة حتى زُفَّت فادية ابنة الثمانية عشر ربيعاً إلى رأفت زوجة ثانية, كانت ابنة حج محمد التاجر المعروف, وكان من المفروض أن تتزوج من قريب لها مذ كانت في الخامسة عشرة من عمرها, لكنَّ مرضاً غريباً أصاب الشاب.. فاضطرَّت إلى انتظار شفائه, ولمَّا طال المرض أعفاها أهل الشاب من الانتظار, وهذا يفسر بلوغها الثمانية عشر عاماً دون أن تتزوَّج, هذا العمر المتقدِّم نسبياً كان من الأسباب الرئيسة التي دفعت رأفت لاختيارها, وكان هناك سبب آخر، فقد كانت أمُّ فادية من جذور تركيَّة, ومن استانبول تحديداً, وهذا ما أغراه على الافتراض بأنَّ قليلاً من التحرر والعصريَّة لا بدَّ أن يكونا من صفات هذه العائلة, كان طموحه لقليل من التحرُّر لا أكثر لأنَّه لم يكن لينسى بيئته المحافظة المتديِّنة.

لم يُوفَّق رأفت إلا قليلاً بما كان يطمح إليه من التعرُّف عليها ومخالطتها, ولم ينجح إلا بتحقيق شرط واحد أصرَّ عليه.. وهو أن يسمع موافقتها منها بلا وساطة أو وكيل, وكان الأمر.. جلبوها إلى غرفة الضيوف في بيت أهلها حيث كان رأفت يجلس مع والدها.. دخلت الفتاة وجلةً مرتعدةً من هذا الخرق للأعراف.. كانت تضع منديلاً جميلاً على رأسها معقوداً عند عنقها, وكانت خالتها قد نجحت في اللَّحظة الأخيرة, وقبل دخولها من الباب , في سحب مُؤخرة المنديل إلى الأسفل بشدَّةٍ واحدةٍ.. مما سبَّب انحساره قليلاً وأتاح بذلك لخصلات أكثر من شعرها في الظهور, جلست وبنظراتٍ سريعةٍ أشبه بالتلصُّص رأته.. فانبهرت بشكله.. وبعد قليل غادرها خوفها, وشعرت بثقةٍ عارمةٍ بنفسها وبالدور الذي ستلعبه.. فلقد كانت الفتاة الوحيدة من كلِّ قريباتها وصديقاتها التي توفَّرت لها الفرصة لترى خطيبها ولتقول نعم أو لا, أوافق أو لا أوافق.. طبعاً تذكَّرت التعليمات جيداً, في البداية ستقول: الذي تراه يا والدي, ولكن عندما سيصرُّ الخطيب.. ستنظرُ إليه وتجيب.

لم يتسنَّ له الانفراد بها أبداً, ولم يبادلها الحديث إلا مرتين أو ثلاثاً وفي حضور أحد من عائلتها, كانت تدخل بصينية القهوة ومنديل رأسها ينحسر في كلِّ مرَّة أكثر بفضل شدِّ خالتها أو إحدى أخواتها له من الخلف, حتّى أنه سقط في آخر مرَّة على كتفها فتململ الأبُّ وطلب الإسراع في إتمام الزواج معتبراً أنَّ تنازلاته وصلت إلى أكثر مما يستطيع تحمّله.

كان رأفت قد أخذ عهداً على نفسه أن يقوم هو بإبلاغ زوجته قراره بالزواج, ولكنه عندما همّ بمفاتحتها بالأمر اكتشف أنها تعلم به ولم يعرف ممن.. نظرت إليه بعينين فيهما حزن العالم وقالت :

ـ ماذا يعني أن أسمع الخبر منك؟!.. أهو قيمة لي؟!.. وهل قيمتي تكمن في أن أكون أوَّل من تبلغها بالخبر؟.. وقيمتي الأساسيَّة في الموضوع برمَّته أين هي؟!..

عرف على الفور أنَّه مهزومٌ سلفاً في أيِّ طريقةٍ يناقش بها الموضوع, كان يستطيع أن يربح لو اتَّبع الطريقة المعروفة.. طريقة كُلِّ الرجال عندما ينوون الزواج ثانيةً: هذا حقي.. ديني وشرعي أعطياني هذا الحق , ولكنَّ شخصيَّته ـ كما عرفها كلُّ الناس ـ لم تكن لتسمح له.. فهو أبو النقاش و الجدال.. كُلُّ شيءِ قابل للجدال والحوار عنده.. هذا كان قانونه الأوَّل, لذلك قال :

ـ أنت قيمتك محفوظة في كلِّ الأحوال.. كانت وستبقى محفوظة أبداً.

الصفحات