كتاب " كتاب الميلانخوليا " ، تأليف نجم والي ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب كتاب الميلانخوليا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نِعمة زهرة النرجس الأصفر، رحمة زنبق البحر، شَفَقة زهرة قرنفل الألم، رأفة زهرة الأقحوان الحيران، ورِفقة زهرة عين الطاووس· ذلك المساء كن يتحركن كما لو كن يطرن، هكذا عديمات الوزن مثل غيمة بيضاء، عندما كن يدرن في البيت· لبرهة دعت البنات العرسان والضيوف للصعود إلى السطح وهن يهتفن فرحات انظروا إلى النجوم، كم هي جميلة كنت أقف معه ومع زوجته عند البالكون ومع بحار صديق له قادم من بعيد، اسمه إدواردو، نتطلع بالبنات وهن يسحبن الضيوف إلى السطح· لم يستغرق الوقت طويلاً، حتى رأيت أربعاً منهن مع أربعة من العرسان ومعظم الضيوف الذين - لحسن الحظ - لم يكونوا كثيرين حتى تلك اللحظة، ربما لم يتجاوزوا الخمسين، رأيتهن يطرن في الهواء، هذه المرة بالفعل، مثل غيمة ولكن ليس بيضاء إنما سوداء مليئة بالسخام، معهن طار كل البيت· حينها فقط تذكرنا أنه لم يكن يوم السوسن، إنما كان يوم 22 أيلول، يوم اندلعت الحرب· ألا ترى معي، أنه لم يبق من البيت غير الشرفة والنجوم التي امتدت فوقها· لكن ظل هو وزوجته التي منذ ذلك اليوم نذرت نفسها لبيع الزهور، زهور الأكاسيا فقط، معتقدةً أنها زهرة القدر لا غير·
فقلت له إنني سمعت القصة بطريقة أخرى· ضحك وقال:
- نعم ياصديقي، القصة، القصة، القصة·
ردد تلك الكلمة أكثر من مرة، قبل أن يقول لي:
- هل تعرف أننا نسمع قصة واحدة، وكل القصص الباقية هي تنويع على القصة الأولى· والأمر متروك لنا بالتالي، أية قصة نروي· تلك هي الحال مع اللازمة الموسيقية التي نكررها ومع المرأة التي نحب· ففي النهاية هناك امرأة واحدة، قصة واحدة، زهرة واحدة مثل زهرة القدر·
خرجت مباشرة بعد سماعي للحكاية· قطعت الطريق بسرعة عجيبة حتى أصبحت عند الشرفة المتوحدة في المكان· رأيت الرجل يقف عند الشرفة· هو ذاته مثلما رأيته في المقبرة· لبس بزة جوخ وحذاء أبيض وعقدة من حرير وقبعة بحار وعصا من خيزران في يده· كان له بؤبوا عينين شاحبان يمنحانه هيئة الملاح، وشارب من صوف سنجاب، فيما وقفت زوجته بجانبه، ذاتها التي باعتني الورد في المرة الأولى· ربما كان يكبرها بعشر سنوات، لكن مزاجه الذي بدا مصراً على ألا يهرم وعزمه الحي على جعلها سعيدة، بالإضافة إلى مؤهلات العاشق التي يبدو أنه تحلى بها، كل هذا كان تعويضاً عن فارق العمر· أردت أن أصيح به عندما رأيته يغادر وزوجته الشرفة· عبثاً، في تلك اللحظة رأيتهما مثل شبحين من الصعب تصور حقيقة وجودهما، يغادران المكان، وقد تأبطا ذراعيهما، وفي الوقت نفسه وصل سمعي حوار أشبه بالهمس:
- هل تتذكرين معي زوج أصغر بناتنا، البحار، ليلة العرس؟
- تقصد الضابط البحري··؟
فأجابها:
- تتذكرين أنه حدثنا عن وجود زهرة القدر·
فقالت له وهي تضع رأسها فوق كتفه:
- أتذكر أنه قال إنها تنمو عند سواحل الكاريبي، حيث مدينة قرطاجة الهنديات، في ماكوندو·
مسد شعرها الشائب بيده· حينها تهيأ لي أنني أسمع جملة وكأنها منحوتة في الهواء منذ القدم قالها هو بصوت حنون:
- نعم ويسميها الكاريبيون زهرة سوق الشيوخ·
مثلهما مثل تلك الشخصيات التي تظهر وتختفي فجأة في السينما، راحا ينسلان شيئاً فشيئاً ويختفيان من المكان الذي كنت أراقب منه هيئتهما، لأظل وحيداً عند الشرفة التي التّمت فوقها نجوم لامعة مثلما التمت تلك الزهور التي لممتها أنا قبل ساعات في حزمة·· هناك·· تلك هي الزهور، كل الزهور: زهرة المساكين·· زهرة القدر·· زهرة ماكوندو·· زهرة قرطاجة الهنديات·· زهرة سوق الشيوخ·