أنت هنا

قراءة كتاب وحيداً كذئب الفرزدق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وحيداً كذئب الفرزدق

وحيداً كذئب الفرزدق

كتاب " وحيداً كذئب الفرزدق " ، تأليف أمجد ناصر والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

2- كان ناصر أحد القلائل الذين انفردوا عن ذلك الجيل من الشعراء الشباب (وكانوا شباباً بالفعل في تلك الحقبة، أواخر السبعينيات) في خيار أعتبره حاسماً تماماً، ليس على صعيد حياة كلّ منهم فحسب، بل في ما سيتوالى من أطوار لاحقة في حياة قصيدة النثر العربية. ذلك الخيار هو الانعتاق المبكّر والواعي من إسار نموذج "القصيدة اللبنانية"، الذي هيمن على كتابة الغالبية الساحقة من شعراء قصيدة النثر الشباب، وفرض جملة من السمات الأسلوبية التي استقرّت ورسخت واكتسبت تدريجياً صفة "المواضعات" و"الأعراف".

في الأردن سوف يكتشف ناصر شعر بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصايغ، كما سيسرد بنفسه. وفي بيروت سوف يقرأ خليطاً من كلّ ممثلي الحداثة الشعرية العربية تقريباً، إذ كان في وسع المرء "أن يرى في شارع واحد أو شارعين نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش وخليل حاوي ومعين بسيسو وسعدي يوسف وشوقي أبو شقرا وبول شاؤول وعباس بيضون وكمال خير بك (كان أنسي الحاج في الجانب الآخر من بيروت لكن مشروعه الشعري المتمرد حاضر). هذا إلى جانب حضور الشعرية الغربية بصفتها مصدراً أساسياً للكتابة، أو في الأقلّ، شعرية مقارنة"، يقول ناصر، ويعدّد أسماء مثل ت. س. إليوت، سان جون بيرس، رامبو، رينيه شار، ريتسوس، كفافي...

آنذاك كانت "القصيدة اللبنانية"، وفي نظر ناصر دائماً، هي تلك التي "جعلت من قصيدة النثر خياراً شعرياً، وربما سياسياً مضاداً أيضاً، في مواجهة "القصيدة الوطنية" التي كان يطبعها الهاجس الوطني المقاوم، وكان يكتبها فلسطينيون ولبنانيون وعرب، واتخذت من الوزن وسيطاً لها". لكننا نعرف أنّ ناصر، في مجمل مزاجه الشعري وربما في القسط الأعظم من عدّته الشعرية، كان منحازاً لتوّه إلى تقاليد "القصيدة العراقية"، وقصيدة سعدي يوسف بصفة خاصة، في مستوى أساسي واحد على الأقل: أنّ سعدي كان "أقرب الشعراء العرب الكبار إلى قصيدة النثر من حيث التخفف من ثقل الإيقاع النظامي وسيولة مادته التعبيرية، وقربها من اليومي"، كما سيقول أمجد ناصر في شهادة شعرية. ولهذا الانحياز أهمية بالغة في يقيني، لأنه مَدَّ نماذج قصيدة النثر العربية الشابة (قصيدة أواسط السبعينيات) بروحيّة كتابة أكثر أصالة واقتراباً من الموروث الشعري، وأكسبها بالتالي حيوية خاصة في العلاقة مع الذائقة، وهي العلاقة التي بدا وكأنّ "القصيدة اللبنانية" لا تراهن عليها أو لا تعبأ بها كثيراً.

ومنذ عام 1979، أي منذ أولى قصائد النثر التي أخذ ناصر يكتبها، نعثر على هاتين السمتَين الفارقتَين ـ الأصالة والحيوية ـ وندرك دون كبير عناء، ولكن ببهجة خاصة، أنّ أبناء هذا الجيل يقبضون لتوّهم على عدد من المفاتيح المختلفة في الكتابة الشعرية، وينشقّون ويجرّبون ويجدّدون، ولكن دون إدارة الظهر تماماً لموروث القصيدة العربية الحديثة، وللمكتسبات التي حققتها على جبهات أخرى غير الجبهة اللبنانية.

وفي قصيدته "كونكريت"، والتي يوقّعها في بيروت عام 1979، يقول ناصر:

إلى أين تأخذنا الأقدامُ

المكوّنة من عشر أصابع؟

إنها أقدامنا ذات الأجراس العشرةِ

المبحوحةِ

صاعدةً مدارج الكونكريت

بمزيج من الألياف

والخوف،

وقليل من الدم،

إنها أقدامنا،

صهواتٌ واطئةٌ،

تسبح في براري الإسمنت.

ونتعرّف في هذا المقطع على عدد من الخصائص التي ستميّز ناصر عن سواه، وستطبع نتاجه القادم، وتشكّل مادّة القلق التعبيري الدائم الذي سيقوده إلى تجديد دائم لأدواته وموضوعاته وخياراته الأسلوبية. ولكننا ندرك أيضاً، وأساساً، أنّ هذه بصمة شعرية مختلفة عن المألوف في قصيدة النثر السبعينية: لأنها لا تنأى كثيراً عن السائد آنذاك في اللغة والمزاج والنبرة واللقطة الشعورية فحسب، بل تعيد أيضاً صياغة تعاقد حيوي مع الذائقة، مردّه تلك الآثار العراقية الغائرة عميقاً في تكوين ناصر.

3- كان طبيعياً، ولكن لم يكن آلياً أو تلقائياً، أن تسفر هذه التربية الجمالية عن رسوخ فصحى رفيعة في قصيدة ناصر. ومنذ القصائد الأولى كان واضحاً أنّ اللغة رهان مركزي في قرارة الشاعر، وأنّ مسعاه هو تطوير فصحى غنيّة، حارّة المعجم، عالية الإيحاء، حسّية العناصر، تشكيلية الصورة، بصرية الاستعارة، وإيقاعية التكوين في بنياتها الدلالية والصرفية والصوتية.

ولقد نجح في تحقيق هذا كلّه، على مراحل، ولكن بثبات واضطراد...

ورغم أنّ ناصر استهلّ مجموعته الثانية، "منذ جلعاد كان يصعد الجبل"، 1981، باقتباس من أنسي الحاج وآخر من راينر ماريا ريلكه، فإنّ لغة هذه المجموعة كانت في حال مختلفة تماماً عن تلك التي يمكن أن توحي بها لغة هذين الشاعرين. كذلك كانت الموضوعات (الأرض بما تضجّ به من تواريخ وعشائر وعناصر، المشهدية البدوية، البورتريهات البشرية، المناخات الكابوسية، الرثاء، البدايات الإيروسية...) تشدّ اللغة إلى نطاق تعبيري آخر، وإلى رؤيا شعرية أكثر احتشاداً وملحمية.

خذوا هذا المثال من "أيتها الهوادج"، القصيدة القصيرة البديعة التي يندر أن يفرّ من إغواء اقتباسها أيّ دارس لشعر أمجد ناصر:

أيتها الهوادجُ

أيتها الهوادجُ

يا أجراس الصحراءِ

من هنا مرّ الأردنيون

حفاةَ السيوفِ والأقدامِ

في أرواحهم يقدح حجر الصوّانِ

وفي لحاهم المغبرّةِ

تعوي الذئاب.

أيتها الهوادجُ

أيتها الهوادجُ

من هنا مرّ شعبي

عارياً وضامراً يسحب خلفه

نهراً يابساً

وصقوراً كهلة.

ولاحظوا كم تنفرد هذه القصيدة في رؤيتها ولغتها ومجازها وعمارتها الإيقاعية، بحيث يصعب ردّ نسبها إلى أية كتلة شعرية سائدة آنذاك (مطلع الثمانينيات)، فكيف بوضعها في سلّة "القصيدة اللبنانية" ذات العلامات الفارقة المتماثلة، الذهنية والتجريدية والذاتوية.

وفي مناسبة صدور مجموعته السادسة "مرتقى الأنفاس"، 1997، أتيحت لي ـ من جديد، ولكن في معطيات فنّية متجددة ـ بهجة متابعة اكتمال المزيد من خصائص هذه الفصحى العالية، وتوقفتُ عند تلك الجزالة الخاصة التي تتبدى عليها اللغة الشعرية، والتي تذكّر بحرارة المعجم في مجموعتَيْ "رعاة العزلة" 1986، و"وصول الغرباء"، 1990، بصفة خاصة، وإنْ كانت المجموعة الأخيرة تذهب أبعد في استكشاف باطن الفصحى واستثمار الطاقات الإيحائية لمفردات غير دارجة، ولكنّ مخزونها الدلالي يتدفق بيسر، ويسلم قياده بسهولة. كذلك توقفتُ عند بنية التكامل المدهشة التي ترتديها الجملة الاستعارية، وهي إجمالاً من النوع الرعوي الغنائي الشفيف تارة، أو البدوي البرّي الحارّ طوراً، اللذين امتاز بهما أمجد ناصر عن أقرانه. وفي هذه البنية تبدو عناصر الاستعارة وكأنها تتجمع على نحو عشوائي أوّلاً، لكي تباغت بعدئذ حين تتنافر دلالياً حتى تكاد تقترب من الهلوسة البصرية الحرّة، قبل أن تلتئم مادّتها أخيراً لتصنع علاقة مجازية مدهشة في ائتلاف خطوطها التشكيلية:

ما عرفتُ، مذ نوديتُ، سوى هذه الرغبةِ

تقودني بخطمها الأعمى إلى مسيل الليل

سوى لهب البنفسج يصّاعدُ من تنين الجوفِ

سوى الامّحاء.

بأوعية الندم نضحتُ غبارَ الأفكارِ

وتركتُ للمقبلينَ

زفرتي حجراً

على رابية.

4- منذ مجموعته الرابعة، "وصول الغرباء"، شرع ناصر في تكريس تقليد يندر أن نعثر عليه - بهذه الدرجة من الصفاء والقصدية وحسن التنفيذ - في معظم المشاريع الشعرية المكتملة التي تصنع مشهدية قصيدة النثر العربية المعاصرة: تكريس مجموعة شعرية بأسرها لموضوعة واحدة، أو لسلسة تنويعات ضمن موضوعة واحدة جامعة. وفضيلة هذا التقليد أنه يمنح الكتابة الشعرية طابعاً "غائيّاً" و"تعاقدياً" في مستوى التنفيذ الجمالي للنصّ الشعري، أو بالأحرى الترجمة الفنّية للمعنى، وهو بالتالي يمنح القارئء فرصة ثمينة لبلوغ تفاعل أكثر وضوحاً مع نجاح أو إخفاق الشاعر في الوفاء بحصّته من تحدّي المعنى الذي اختار مواجهته بنفسه. ثمة، من جانب آخر، فرصة استدراج القراءة إلى استقبال أكثر حيوية للنصّ الشعري، الأمر الذي يقتاد القارئ إلى درجة أرقى وأكثر "نزاهة" في تلمّس وتذوّق ما تنطوي عليه هذه الكتابة الشعرية من مشقّة (وغنيّ عن القول إننا بأمسّ الحاجة إلى توافق كهذا، في ضوء ما تُتهم به قصيدة النثر من خفّة واستخفاف بالشكل والمحتوى في آن). وثمة، ثالثاً، مغامرة زجّ الشكل الشعري في اختبار مفتوح مع الموضوعة/ الموضوعات، والقبول بعواقب ما يمكن أن يسفر عنه جدل هذه المواجهة، وما إذا كانت تُنهِضُ الشكل أم تُقعِده.

وفي سياقات هذا التحدّي، الذي أشدّد أنه ليس البتة رياضة يسيرة، قارب ناصر الموضوعة الإيروسية في مجموعته الخامسة "سرّ مَن رآ"، 1994، ولكنّ قصائده هذه تجاوزت الإيروسي والشبقي والغريزي والحسّي، أو هي بدأت منها لكي تقارب قصيدة الحبّ القصوى. ولقد بلغت شأو تجسيد الموضوعات الحلمية في أطوار من التوغّل البصري المدهش في تفاصيل الجسد؛ أو انقلاب المألوف في تلك التفاصيل إلى جملة استعارية حارّة واختراقية؛ أو الاحتفاء الباخوسيّ بأيّ وكلّ مستوى من اللقاء الخام بين لحم حيّ مشتعل، وآخر يتوهجّ مجازياً دون أن يقلّ اشتعالاً؛ أو اقتفاء أثر الهوية طَيّ اصطراع تناحري حول العزلة، ولقاء الآخر، ورشق الذات على مرآة نرجسية مبرَّحة، ولكنها طبيعية بفضيلة إنسانيتها المعرّاة من أقنعة العقل؛ أو - أخيراً - مصالحة الجسد مع النفس، عن طريق إنشاد (يطلق عليه أمجد ناصر صفة "التعزيم") يتوسّل العقل في نهاية المطاف، لأنه يضع القارئ في الحسبان، ويضعه على نحو قصدي وبارع وماهر:

أعينُنا بيضاء من الفرح

كأننا عُميٌ نراكِ بالرائحةِ

ونتقرّاك بالأنفاس.

امرأتُنا كلّنا

فشلنا في معرفة الأثير

وعندما رفعتِ يدكِ

مَدَدنا أيدينا

ولم تكن هناك مرآةٌ

مسّنا هواؤكِ فجرّحنا

طلعنا عليكِ من كلّ فجّ

ولم ننفرد.

وضمن سياقات التحدّي ذاته، وفي مجموعته السادسة "مرتقى الأنفاس"، نقل ناصر قصيدة النثر العربية التسعينية إلى منطقة تحدٍ شاقة، نادرة أو غير شائعة على الأقلّ، هي مقاربة الموضوعة التاريخية من موقع ملحمي إنشادي. وهذه مقاربة كفيلة بممارسة أشدّ الضغوط على الشكل أوّلاً، وعلى عمارات الإيقاع - التي لا تقوم في قصيدة النثر على أيّ عتاد عروضي يسهّل تحقيق الإنشاد - ثمّ على النثر ذاته، وسيط الكتابة الشعرية، بسبب طبيعته العصيّة على الانتظام في وحدات إنشادية. وكان ممّا يبهج في هذا الصدد أن ناصر نجح في تحقيق درجة رفيعة من امتزاج الملحمي بالغنائي، حتى ليبدو أنّ صوت الشجن العالي - الذي يتعالى في الكثير من قصائد المجموعة - إنما بُحّ واخشوشن وتكثّف بسبب من ارتقاء الأنفاس لدرجَين في آن معاً: غناء الذات وملحمة الجماعة.

مجموعته السابعة "حياة كسرد متقطع"، 2004، تسجّل نقلة مميّزة، وذات أهمية خاصة، ليس في سياق تطوّر تجربة ناصر الشعرية الشخصية فحسب، بل على صعيد تطوّرات قصيدة النثر العربية المعاصرة بصفة أعمّ، وفي تفصيل مركزي بالغ الحساسية وشديد الإشكالية: هاجس الشكل إجمالاً، وقلق الشكل الراهن تحديداً. ولم يعد خافياً، الآن وقد انقضت أربعة عقود ونيف على ولادة "قصيدة النثر" العربية، أنّ الشكل الذي يُسقط الوزن ويعتمد النثر ولكنه يحافظ على تقطيع للأسطر شبيه بشكل "قصيدة التفعيلة"، وقع أسير الرتابة والتماثل، وبات ساكناً جامداً محافظاً، هو الشكل الذي رُفعت له رايات التجديد والتجاوز والحداثة.

وفي هذه المجموعة يحاول ناصر مواجهة معظم هذه المفارقات، وتذليل ما تسفر عنه عادة من عوائق قراءة وإيصال، وتكريس "أعراف" شكل منفتح ومفتوح في آن. إنه، أوّلاً، ينحاز مباشرة وبوضوح تامّ إلى النثر كوسيط تعبيري، وإلى شعرية النثر أو الشعر في النثر بالأحرى، لكي يكسر دائرة التضادّ القاتلة التي وقع فيها الشكل من حيث التسمية والمصطلح في الأساس، قبل الاعتبارات الأخرى التي تخصّ اختلاق صراع قطبي بين "وزن" و"نثر" داخل "القصيدة". وهو، ثانياً، يتوغّل عميقاً في باطن الجدل المحتدم أبداً بين "اللغة اليومية" و"اللغة الشعرية"، هذه الأخيرة التي كانت على الدوام امتياز الشعر عن النثر، قبل أن تهبط من علٍ بقرار إرادي من الشاعر نفسه، الحريص على "الهامشي" و"المجّاني" و"اليومي"، ولكنها فشلت مراراً في أن تمسّ شغاف قارىء يعيش هذه اللغة كلّ يوم... لأنها ببساطة لغته الهامشية والمجّانية واليومية!

وهو، رابعاً، يشتغل على القصيدة الدرامية، أو القصيدة بوصفها سردية قصيرة حول لقطة إنسانية بالغة الخصوصية، ليست مع ذلك متجرّدة من عوامل الماضي والحاضر والمستقبل، وليست في منجاة من ضغوطات المعنى والتاريخ والبلاغة والأسطورة. إنها القصيدة التي تروي عَدّ النجوم في بلدة المفرق الأردنية، لكي تقودنا إلى أسطورة مغربي في فاس القديمة، ثمّ من منازل القمر في لندن إلى خرافات الطفولة وحكايا الجدّات. وهي القصيدة التي نقرأ فيها عن منديل السهروردي أو الخاتم القيرواني أو الرُقَم الطينية، ولكننا في الباطن العميق نواصل النواس بين الحلم والحقيقة، بين الرؤيا واليقين، وبين الدلالة في الرمز والمدلول في الحكاية.

وأرجو، ختاماً، أن يجد قارىء هذه المختارات الكثير من البيّنات على مسعى مركزي في شعرية أمجد ناصر: أنه يجهد للانتقال بشكل قصيدة النثر العربية المعاصرة إلى مصافّ أخرى أشدّ رقيّاً، وأكثر مشقّة وتعقيداً في تقديري، وأعلى قدرة على تخليص الشكل من سكونيته وجموده وبناء تعاقد صحّي مع قارىء لا يضلّ طريقه إلى الشعر الحقيقي.

الصفحات