أنت هنا

قراءة كتاب صور في ماء ساكن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صور في ماء ساكن

صور في ماء ساكن

كتاب "صور في ماء ساكن " ، تأليف سلوى جرّاح ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

لم أكن في أي من مراحل الدراسة، الأولى على الصف· كنت أنجح باستمرار، وأحصل على درجات لائقة· لكني كنت دائماً رسامة المدرسة ونجمة جريدة الحائط العتيدة، والطالبة التي تفوز بالجوائز في مسابقات الرسم في كل مراحل الدراسة· وكنت سعيدة جداً اني أرسم وأقضي مع أقلامي وأوراقي ساعات فيها حلاوة الاكتشاف والتجربة والبحث· وجدت الرسم ممتعاً متاحاً· ما إن أمسك بالقلم حتى تتوالى الخطوط تستقيم وتنحني حسب رغبتي وتظهر المعالم، ثم أرى الضوء يلقي بظلاله على الأشياء التي أرسمها، فأوضحه، بتظليل من قلمي هنا وتعميق للخطوط هناك، حتى تكتمل رؤيتي لما أرسم· بعد ذلك أتأمل ما رسمت· أحياناً أكون راضية وأحياناً أُخرى أشعر أن ما أريده لم يكتمل، ولا يتناسب مع ما كان في خيالي· علّمني الرسم كيف أكتشف ذاتي وأفهم بعضاً من كوامنها، وأروضها لتفرح بالنجاح وتعترف بالفشل· رغم ذلك كنت دائماً أتساءل، هل حقاً أجيد الرسم، وموهوبة كما يقول مَنْ حولي، أم هو مجرد وهم؟ هل يكفيني تفوقي على زملائي وزميلاتي الذين يجيدون الرسم مثلي؟ وهل لهذه الجوائز قيمة حقيقية في تقييم مقدرتي الفنية؟ حين انتقلت إلى المدرسة المتوسطة، وجدت الكثير من الإجابات عن أسئلتي وأنا استمع لملاحظات مدرسة الرسم·

كانت الست مها، شابة في أوائل عشرينيات عمرها، لطيفة الشكل تحسن انتقاء ملابسها وتضفي على كل ما ترتديه مسحة فنية، بما تضيف من إكسسوارات بسيطة وأنيقة وما تلفه حول رقبتها من (إيشاربات) ملونة، وتميل بشكل واضح للألوان الرملية التي تمزجها بالزيتوني والبني· كانت تجيد رسم الوجوه وتجسيد الشخصية، تذهلنا حين ترسم وجه إحدى الطالبات، بالفحم الأسود أو الألوان الشمعية، فنرى معالم الوجه والكثير من روح من رسمت تظهر ببطء أمامنا· رغم ذلك، لم تصبح رسامة معروفة ولم تحترف الرسم، ولم تشارك في المعارض التشكيلية، فضَّلت التدريس، وجعلته مهنة تضمن لقمة العيش· حين سألتها مرة عن سر عدم احترافها، أجابت بكل بساطة: (الفن ما يوكل خبز الوظيفة أضمن) بعد سنين حين أقمت معرضي الأول بحثت عنها ودعوتها لحضور معرضي· وقفتْ مذهولة أمام لوحاتي وهمست: (لا تتوقفي عن الرسم يا بديعة) وحين وقفت في باريس لأول مرة أتفرج على رسامي حي مونمارت حول الساحة الصغيرة، وهم يرسمون الوجوه بخطوط ثابتة مبهرة في أقل من عشرين دقيقة، تذكرتها· أحسست أنها يمكن أن تكون واحدة منهم وستجد العديد من الزبائن· تمنيت أن أراها ترسم معهم، وتعرض موهبتها، وتساءلت: ترى هل غادرت الست مها العراق، وهل زارت باريس وحي مونمارت ورأت رساميه؟

لم أنس شكلها وطريقة كلامها وصوتها الهادئ الواثق، واهتمامها الشديد بطالباتها، وكيف كانت تحاول أن تعطينا كل ما تعلمته واستوعبته في دنيا الرسم· كانت صبورة، طويلة البال، تترك الطالبة تكتشف بنفسها غوامض هذا العالم الجميل المبهر، عالم اللون والفرشاة وسكين الرسم· وكانت تخصني بالكثير من رعايتها وتؤكد لي باستمرار أني أجيد الرسم وأتطور في فهم الألوان واستعمالها· كان عالم الألوان الزيتية جديداً علي، يتجاوز الرسم بالأقلام الفحمية، والألوان المائية، التي كنا نسميها (سليبويا)، خاصة حين يعاندني اللون ولا تعطيني ضربات الفرشاة ما أريد في تحديد معالم اللوحة· كانت تُصرُّ على أن أجرب ولا أخاف الفشل (فالفشل هو طريق النجاح الحقيقي) ثابرت ورضيت بتكرار الفشل وبدأت أطوع اللون والفرشاة لما يدور في مخيلتي، وأراه يتحول تدريجياً إلى شيء يستطيع أن يفهمه الآخرون·

الست مها هي أول من شجعني على دراسة الفن في مراحل الدراسة الجامعية· (أدخلي أكاديمية الفنون الجميلة وتعلمي أصول الرسم على يد كبار الرسامين العراقيين، لتعطي موهبتك ما تستحقه من تدريب وعلم) كنا نتبادل الكثير من الأحاديث في مرسم المدرسة الصغير، عن الكتب التي أقرؤها والمعارض الفنية التي أزورها· حكيتُ لها عن زيارتي الأولى لمعرض تشكيلي حين كنت في التاسعة من عمري، وكيف وقفت مشدوهة أمام اللوحات أتمعن في ضربات الفرشاة على القماش· أذهلني تمازج الألوان وتنافرها المتناغم، ورحت أتساءل لم تختلف طريقة كل رسام عن الآخر، بحيث يُعرف من لوحاته، من ضربات فرشاته، وألوانه واختياره للموضوعات التي يرسمها؟ كيف اختار كل منهم هذه الطريقة بالذات، وكيف وجد فيها ما يعبر به عن كل ما يريد؟ تمنيت أن أدعوها يوماً إلى بيتنا، لكن أمي رفضت بشدة· قالت: (لا أحب أن تختلط علاقة المعلمة والطالبة، بالحياة الاجتماعية) لم أناقشها، فأمي تتحدث عن تجربة·

الصفحات