أنت هنا

قراءة كتاب صور في ماء ساكن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صور في ماء ساكن

صور في ماء ساكن

كتاب "صور في ماء ساكن " ، تأليف سلوى جرّاح ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

في أواخر الخمسينيات، كانت بغداد مدينة تموج بالحياة، وتنمو على أطراف دجلة، تمتد في كل الاتجاهات وتكبر أفقياً· لم تكن فيها بنايات مرتفعة، بل بيوت تحيطها حدائق تكبر وتصغر حسب الإمكانيات المادية لأصحاب تلك البيوت· كان (المنصور) حياً حديث التكوين بشوارع رحبة عريضة وبيوت تؤكد بصمة المعماري العراقي الحديث، بُني معظمها في أوائل الخمسينيات، واعتنى ساكنوها بحدائقها فبدت جميلة منسقة، عشقتها ذاكرتي واستعادتها في أيام مجدبة كثيرة تالية· بيتنا كان في شارع تُحَلَّيه على امتداده من الجانبين الأشجار، يؤدي إلى ما يسمى بشارع الأميرات، حيث يوجد بيت كبير يعرف بقصر الأميرات، تسكنه أميرات من الأسرة الهاشمية الحاكمة· بعد سنين، ظل الشارع يعرف بالاسم نفسه، رغم غياب الأميرات، ورغم أن قصرهن الذي منح الشارع اسمه، أصبح مدرسة اليرموك الثانوية للبنات·

بيتنا كان من طابقين، أبوابه وشبابيكه من الخشب الصاج، له مدخل مرصوف، وتدور حوله حديقة واسعة· غرفه رحبة، خاصة غرفة (الصالون) التي تسمى (غرفة الخُطّار) أي غرفة الضيوف، وتفضي إلى غرفة طعام كبيرة تتوسطها مائدة بيضاوية تدور حولها عشرة كراسي· وعلى الجدار المقابل للباب الزجاجي الكبير الذي يؤدي إلى الحديقة الجانبية، خزانة تكاد تلامس السقف العالي بأبواب زجاجية تعرض على رفوفها قطع من الزجاج المعتق والفضّيات التي جمعت عبر السنين· غرفة الطعام تلك، كانت دائماً غرفتي المفضلة· كنت أحب الجلوس في الكرسي الكبير ذي المساند الذي يحتل أحد جانبي مائدة الطعام، ويقابله كرسي مماثل في الطرف الآخر للمائدة· كرسيّي المفضل كان القريب من الباب الزجاجي المطل على الحديقة حيث يأتيني نور الشمس الطبيعي ويضيء كل ما حولي ويلقي ببعض الظلال على الغرفة· ظلال تختلف حسب ساعات النهار· استهواني تأثير الضوء على كل ما في الغرفة· لاحظت كيف يغير ألوان وشكل ومعالم كل ما فيها من أثاث وتحفيات، ويضفي الظلال في زواياها· وجدت أن أفضل الأوقات هو العصر، حين يدخل الضوء الغرفة من زاوية منخفضة وينير ويظلل الأشياء بطريقة سحرية· حقائق اكتشفتها واستوعبتها في سن مبكرة جداً، وجعلتها أسبابي لتكون غرفة الطعام مرسمي·

لم يكن بيتنا يخلو من الضيوف والأهل والأصدقاء، والمسرات الصغيرة، حياة تسير دون أن يعكر صفوها شيء يذكر· شقيقي الأكبر توفيق سيدخل المدرسة الثانوية، ولا يكف عن الحديث عن حلمه الكبير في أن يدخل كلية الهندسة، وأمي سعيدة مسبقاً بأن ابنها سيصبح مهندساً· سامي كعهده يملأ البيت ضجيجاً وحكايا لا تنتهي عن لعبة كرة القدم، وأحياناً يدعوني لأشاركه لعبه· كان يقول إني لا أحسن تسديد الضربات، لكني أنفع حارس مرمى· جاء الصيف كعادته، وملأ الحر أركان البيت، وظهرت كل الاستعدادات لمواجهته، المبردات والمراوح، والسهر في الحديقة بعد رشها بالماء، حتى ساعة متأخرة من الليل· ثم كان يوم·

كنت في الخامسة من عمري· صَحَتْ أمي كعادتها مبكرة، ذهبت إلى المطبخ لإعداد الفطور، فتحت المذياع، ما هي الا لحظات حتى بدأت تصرخ بكلام غريب وهي تصعد السلم المؤدي إلى غرف النوم في الطابق العلوي: (عبد الرحمن، عبد الرحمن قوم، قوم شوف شنو صاير) هبط أبي مسرعاً· بدا مضطرباً مشوشاً· سمعت صوت رجل في الراديو يقول (بالاتكال على الله، وبمعونة أبناء الشعب المخلصين، والقوات المسلحة الوطنية، قمنا بتحرير الوطن الحبيب من عصبة الفساد التي نصبتها الامبريالية) لم أفهم نصف ما قاله· بدأ الهاتف يرن بلا توقف· سمعت كلمات غريبة، الجيش، الملك، نوري السعيد، وأسماء أشخاص لم أسمع بهم من قبل· جلست أمي في الكرسي الكبير في غرفة الجلوس خائفة مرتبكة تفرك يديها وفي عينيها دموع· سألت أبي عما حدث، بدت عليه الحيرة وهو يقول: (العراق صار جمهورية)·

الصفحات