أنت هنا

قراءة كتاب النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث

النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث

كتاب " النزعة العلمية في الفكر العربي الحديث " ، تأليف نبيل عبد الحميد عبد الجبار ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

وفي عام 1834 نقلت إلى بيروت المطبعة الأميركية للمرسلين البروتستانت – (وكانت قد أنشأت في مالطا عام 1822) وعلى أثر ذلك أنشأت( عام 1848) المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين في بيروت، وكانت تطبع على الحجر ثم صارت تطبع الحروف، وفي عام 1857 أنشأت أولى المطابع الأهلية التي يملكها أفراد، حيث أنشأ (خليل الخوري)- (المطبعة السورية)، وبعد ذلك بعشر سنوات أنشأت (مطبعة المعارف) من قبل (بطرس البستاني) وفي عام 1874 أنشأت (المطبعة الأدبية) من قبل (خليل سركيس) ([44]).

ولم يكتف رجال الإرساليات باستخدام المطابع في طبع الكتب والكراسات الدينية فحسب بل استخدموها أيضا في طبع المنشورات أو النشرات الإخبارية التي ما لبثت أن تطورت لتتخذ شكل صحف ومجلات تعكس نشاطات المرسلين والمبشرين في شتى المجالات، ولعل أقدم هذه النشرات صدوراً النشرة التي أصدرها المبشرون الإنجيليون عام 1851 باسم (مجموع الفوائد) وكان يشترك في تحريرها عدد من المبشرين تحت إشراف (القس عالي سميت) ([45]). ثم ألحقوها بنشرات وصحف أخرى، مثل(أخبار عن انتشار الإنجيل) و(النشرة الشهرية) و(كوكب الصبح المنير) و(النشرة الأسبوعية) أما اليسوعيون فقد اصدروا أولا صحيفة المجمع الفاتيكاني التي أنشئت للدفاع عن مجمع الفاتيكان ثم اصدروا عام 1969 جريدة (البشير) ثم ألحقوها بمجلة (المشرق) ([46]).

وعلاوة على ذلك كله، لجأت الإرساليات التبشيرية إلى وسيلة أخرى تتيح لها استقطاب أبناء البلاد التي تعمل فيها، وهذه الوسيلة هي- إنشاء الجمعيات وقد عرف المشرق العربي، ولبنان على وجه الخصوص، منذ حوالي أواسط القرن التاسع عشر إنشاء عدد منها، ففي عام 1847 أنشأ المرسلون الأميركيون (الجمعية السورية)، التي وضعت في مقدمة أهدافها السعي إلى نشر العلوم وترقية الفنون وجمع الكتب، مع مراعاة تحاشي القضايا الدينية، وقد ضمت، إلى جانب العديد من رجال الإرسالية الأميركية (مثل القس عالي سميث، والدكتور فانديك، والقس طومسون، والمستشرق كولتي، والدكتور يوحنا ورتبات) نخبة من المثقفين السوريين الشباب (مثل ناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، والدكتور ميخائيل مشاقة، وميخائيل مدور، ونعمة ثابت، وانطونيوس الأميوني) وكان أعضاؤها" يجتمعون مرتين في الشهر فيتناولون الأخبار العلمية، ويقرأون الصحف، ويتباحثون في المسائل المطروحة، وغالبا ما يلقون الخطاب"([47]). وقد استمر نشاط هذه الجمعية حتى عام 1852، حيث تم حلها، وبعد خمس سنوات (عام 1857) أنشأت على غرارها وبهدي قوانينها وشروطها جمعية أخرى عي (الجمعية العلمية السورية)، وفي الوقت ضمت فيه هذه الجمعية عددا من أعضاء الجمعية السابقة، فإنها تميزت عنها في أنها ضمت أيضا عدد من الشخصيات المسلمة (مثل حسين بيهم، وعبد الرحمن بدران، وسليم رمضان) وكانت نشاطات الجمعية تشمل تنظيم محاضرات يقوم بإلقائها بعض أفرادها حول المستجدات والأفكار الأوربية الحديثة التي كانت مثار اهتمامهم ومواقفهم منها.

وبعد أن جمدت الجمعية نشاطها، على أثر نشوب الحرب الأهلية في البلاد عام 1860، عادت ناشطها من جديد عام 1868. بل ونالت اعتراف الدولة العثمانية رسميا بها([48]). وفي عام 1869 أنشأت (جمعية شمس البر) التي كانت فرعا لجمعية اتحاد الشبان المسيحيين في إنكلترا.

وإزاء هذا النشاط من جانب المبشرين البروتستانت، كان من الطبيعي أن يعند اليسوعيون أيضا إلى نشاط مماثل ومقابل، فأسسوا عام 1850 (الجمعية المشرقية) ثم ما لبثت الطوائف الأخرى أن سلكت المسلك نفسه وأنشأت كل منها جمعيتها الخاصة بها، وإن كانت نشاطاتها أميل إلى تحقيق الأهداف الإنسانية الخيرية، فأنشأ (أسعد باشا)- متصرف بيروت العثماني، في عام 1873 (جمعية زهرة الآداب) التي امتازت باستقطابها عددا من الأدباء الشبان (مثل أديب اسحق واسكندر عازار، وسليم النجار، ونخله التويني، وغيرهم) الذين كان من جملة نشاطاتهم تأليف الروايات أو ترجمتها وتمثيلها ورصد ريعها للمشاريع الخيرية، وفي عام 1880 أنشأ الروم الأرثوذكس (جمعية زهرة الإحسان) لتعليم الفتيات وترقية نفوسهن، وفي العام ذاته بادر عدد من الأدباء المسلمين، في محاولة منهم لمواجهة النشاط التبشيري والحدّ من نشاطهم، إلى إنشاء(جمعية المقاصد الخيرية) ([49]).

وفي خضم هذا النمط من أنماط النشاط، وربما بوحي منه، نشأت جمعيات أخرى، منها ما جاهر بسعيه إلى تحقيق إلى تحقيق غايات علمية، مثل( الجمعية العلمية)، التي أنشئت في أوائل عهد الكلية السورية الإنجيلية ومنها ما كانت تسعى من وراء نشاطاتها العلمية العلنية إلى غايات سرية سياسية معارضة للسلطة العثمانية الكلية السورية الإنجيلية (مثل فارس نمر، وإبراهيم الحوراني، ويعقوب صروف وإبراهيم اليازجي، وشاهين مكاريوس) ويبدو أن الجمعية الثانية كانت امتدادا للأولى، وإنها عبرت عن نفسها أخيرا، وعلى نحو علني في ما صار يعرف بـ(المجمع العلمي الشرقي) الذي أنشأ عام 1882، الذي ضم أبرز خريجي الكلية السورية الإنجيلية، من أعضاء (الجمعة العلمية، والذين غدوا فيما بعد عقب تخرجهم، أبرز أعضاء (الجمعية السورية) أيضا. ولعل مما يعزز هذا الاعتقاد أن السبب الأساس الذي أدى إلى تجميد نشاط ( المجمع العلمي الشرقي) فيما بعد، كان سياسيا([50]).

أن كل هذه الوسائل التي لجأت الإرساليات التبشيرية إلى استخدامها في تحقيق أغراضها، كانت في الوقت ذاته، وسائل لانتقال بعض مظاهر الثقافة الأوروبية إلى المشرق العربية وانتشارها بين أبنائه، ويمكن القول أن من بين هذه الوسائل كان للمدارس التي أقامتها الإرساليات، على اختلاف مذاهبها وطوائفها أعمق الأثر في تكوين وإعداد جيل جديد من المتعلمين والمثقفين في سورية ذلك أن كون هذه المدارس دينية التوجية والتعاليم في الأساس لم يحل دون أن تسهم في تكوين عقلية جديدة، أو نمط جديد من التفكير لدى تلامذتها، لاسيما وإنها قد حرصت على تنويع الموارد التعليمية التي غدت بمعطياتها الدينية في عقولهم اهتماما فائقا، راعت، في الوقت ذاته، أن تعمق معرفتهم باللغة العربية وآدابها، من ناحية، وان تهيئ لهم فرصة إجادة لغة أوربية، من ناحية ثانية، وأن تمكنهم من الإلمام بالمعرفة العلمية الحديثة، من ناحية ثالثة، وكان من الطبيعي أن ينعكس تأثير ذلك على عقول التلامذة وطريقتهم في التفكير، ذلك أن تمرسهم باللغة العربية وتلقيهم العلوم الحديثة بواسطتها جعلهم يعون ما تحتاج إليه هذه اللغة من تجديد لكي تتسع لاستيعاب المفاهيم والأفكار الجديدة وتتحول بالتالي إلى أداة فعالة للتخاطب الفكري، ولقد قدر لبعض أولئك التلاميذ أن يقوم فيما بعد، بدور بارز في سبيل رفد اللغة العربية بمقومات التجديد التي تحتاجها.

ومن ناحية ثانية، فإن إجادة أولئك التلاميذ للغات الأجنبية، وخاصة الفرنسية والإنكليزية، قد فتحت أمامهم آفاقا جديدة ومكنتهم من أن يغدوا على تماس مباشر مع الثقافة الأوربية- علوما وآدابا- الأمر الذي كان له أعمق الأثر في توجهاتهم المستقبلية، فإن ذلك أتاح لهم ليس فقط الاستزادة، فيما بعد، من المعرفة العلمية التي تلقوها أثناء مرحلة الدراسة، بل أتاح لهم أن يضطلعوا (أبو بعضهم على الأقل) بدور ريادي في مجتمعهم، تجلى على الصعيد الثقافي خاصة، في قيامهم بدور الوسيط الذي يعكس مظاهر ثقافة الغرب ويسهم في توصيلها إلى عقول بني جلدته، ومن ناحية ثالثة، فإن إلمام أولئك التلاميذ بالمعرفة العلمية الحديثة وتعرفهم على ما تتضمنه من أفكار ومفاهيم جديدة، قد أدى إلى تكوين نمط جديد من التفكير لديهم، فإن تعرفهم على المبادئ والأفكار العلمية، والمنهج العلمي المستخدم في التوصل إليها، قد نمّى لديهم الرغبة في الاستقصاء، بل وطبع هذا الاستقصاء بطابع نقدي يختلف بلا ريب عن الطابع التسليمي الجازم (أو الدوجماتي) الذي كان يطبع نمط التفكير الذي كان سائدا في مجتمعهم.

وفيما بعد، وعقب تود يعهم حياة التلمذة حاول البعض منهم تبني هذا الموقف النقدي واستخدامه، ليس فقط في السعي إلى اكتشاف معرفة جديدة ما، بل وفي النظر إلى ما كان معروفا لديهم ومسما به([51]). ولعلنا لا نستبق النتائج أو الأحداث إذا قلنا انه من بين تلاميذ تلك المدارس، برز عدد من المفكرين الذين قدر لهم أن يغدوا الرواد الأول للنزعة العلمية في الفكر العربي الحديث وإن يحتلوا بالتالي حيزا لا بأس به من هذه الدراسة التي نحن بصددها.

العامل العسكري

كما أدت الاعتبارات الاقتصادية، والاعتبارات الدينية التبشيرية، إلى أحداث إشكال من التواصل بين الغرب وبعض أقطار المشرق العربي، فإن الاعتبارات العسكرية كان لها دور بارز في ذلك، ولما كانت تلك الأقطار تابعة للدولة العثمانية فإن من الطبيعي أن يكون تأثير الاعتبارات العسكرية في أحداث التواصل بينها وبين الغرب غير مباشر وإن يتم من خلال المؤسسة العسكرية للدولة العثمانية.

ويمكن القول في هذا الصدد، أن فشل محاولة الجيش العثماني محاصرة فبينا(1683) كان بمثابة نقطة تحول في تاريخ الدولة العثمانية ونشاطاتها العسكرية التوسعية، حيث أنها أعقاب ذلك اضطرت إلى تبادل دورا مع دول أوربا- (النمسا وروسيا وفرنسا وبريطانيا) فبعد أن كانت الدولة العثمانية تمثل دور الخصم العنيد والواثق من نفسه، الذي يهدد دول أوروبا ويمد أذرعه العسكرية إلى داخل كياناتها، انعكست الحالة وصارت دول أوربا هي التي تهدد وحدة أراضي الدولة العثمانية وتماسك أجزائها، وقد تجلى ذلك في سلسلة الحروب التي اشتبكت فيها الدولة العثمانية مع الدول الأوروبية، والتي لم تسفر إلا عن تكرار هزيمتها واضطرارها في كل من إلى الخضوع لشروط غالبيها الأوربيين، والاستجابة لضغوطهم عليها للتنازل لهم عن جزء من ممتلكاتها، والتغاضي عن تدخلهم المتزايد في شؤونها([52]).

وبطبيعة الحال فإن هذه السلسة من الهزائم المتلاحقة لم تقع بغتة، بل تضافرت على أحداثها جملة من العوامل تراكمت تأثيراتها بمرور الزمن وأدت إلى هذا الانحدار والتدهور في كيان الدولة العثمانية، ومن بين هذه العوامل عوامل سياسية، فقد كانت تقاليد الحكم التي ترسخت في الدولة، منذ نشأتها، تقضي بأن يكون السلطان محور الدولة والممسك الوحيد بمقاليدها، غير انه ابتداء من القرن السابع عشر كانت السلسلة الطويلة من السلاطين الأقوياء والأذكياء قد انتهت، وأخذ يتولى الحكم جيل من السلاطين، كانت أبرز صفات أفراده ضعف الخلق والذكاء علاوة على الافتقار إلى الخبرة، ولا شك أن الدولة لا يمكن أن تمضي الأمور فيها على نحو سليم إذا كانت مقاليدها بأيدي سلاطين من هذا النوع، ولقد انعكست تأثيرات ذلك على المستويات الأدنى في جهاز الحكم والإدارة والجيش وكان مما زاد الأوضاع تفاقما، ازدياد تأثير الأزمة الاقتصادية التي أخذت الدولة تعاني منها بعد فقدانها السيطرة على التجارة الدولية على أثر تحول خطوط الملاحة التجارية عن مراكزها التجارية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، بيد أن هناك عاملا آخر بدا في نظر أولى الأمر في الدولة، أكثر أهمية وأعمق تأثيرا في وقوع تلك الهزائم العسكرية وهو ما تميزت به الجيوش الأوروبية من قوة، بفضل الأسلحة والأساليب والنظم الجديدة التي استخدمتها في حروبها، في الوقت الذي ظل الجيش العثماني فيه يستخدم أسلحة وأساليب ونظما قديمة تزيد من ضعفه يوما بعد يوم، وقد أدى هذا التشخيص لسبب تقهقر نفوذ الدولة العثمانية وعزوه إلى العامل العسكري في المقام الأول، أدى بالسلاطين العثمانيين إلى الشروع، مع بداية القرن الثامن عشر، بمحاولات لإصلاح المؤسسة العسكرية العثمانية وتحديثها، سواء من حيث التنظيم والتدريب، أو من حيث المعدات والتسليح([53]). ولم يكن هناك سبيل لتحقيق ذلك سوى استقدام مدربين وخبراء عسكريين أوربيين والاستعانة بهم في فتح مدارس عسكرية حديثة على غرار المدارس الأوروبية، يتم فيها إعداد الضباط وفق الأساليب المتبعة في الجيوش الأوربية.

ولقد تمت أولى المحاولات، في هذا السبيل، في عهد السلطان أحمد الثالث (1703-1730)، الذي عمد إلى تجديد الترسامة وتنظيم البحرية وفقا للأسلوب الأوروبي الحديث، وإنشاء العديد من المدارس، وكذلك إنشاء أول مطبعة في الاستانة بعد إفتاء المفتي بجواز ذلك، شريطة عدم طبع القرآن الكريم خوفا من تعرضه للتحريف([54]). ومن بعده تابع خلفه محمود الأول (1730-1754) خطاه، لاسيما وإن عهده قد شهد توثق العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا، وكان من ثمار ذلك أن أهداه الملك لويس الخامس عشر سفينتين حربيتين وعددا من خبراء المدفعية الفرنسيين، لكي يتولوا تدريب أفراد الجيش العثماني وفقا للنظم الجديدة المتبعة في الجيش الفرنسي، كما أن عهده شهد تأسيس مدرسة الهندسة ومجلس العلوم الرياضية وترجمة عدد من الكتب العسكرية([55]). أما السلطان مصطفى الثالث (1757-1774) فقد شهد عهده تطورات عديدة قام بها خبير عسكري مجرى الأصل فرنسي الجنسية هو البارون دي توت (1733-1793)، شملت، علاوة على تعزيز تحصينات واستحكامات مضيق الدردنيل، إنشاء مسبك لصب المدافع في الاستانة، وإنشاء مدرسة لتخريج ضباط المدفعية، كجزء من خطة لترتيب كتائب المدفعية وفقا للنظم الجديدة، وكذلك إنشاء مدرسة لتخريج ضباط أركان ملمين بالعلوم العسكرية الحديثة، ومدرسة أخرى لإعداد ضباط للبحرية اتخذت مقرا لها في الترسانة([56]).

وجاء عهد السلطان سليم الثالث (1789- 1807) ليشهد الإصلاح فيه دفعا قويا، لاسيما وإنه استعان بخبرة عدد من الشبان العثمانيين الذين درسوا أحوال أوربا عن كتب ووقفوا على دخائل سياستها، ولما انتهى من تكوين تصوره عن سبل لإصلاح ومستلزماته، أصدر في عام 1793 أوامره التي أطلق عليها اسم (نظامي جديد) وكانت تهدف إلى تحقيق الإصلاح في دوائر الدولة وخاصة العسكرية والبحرية منها. وقد اقتضى ذلك استقدام عدد كبير من الخبراء والمستشارين والمدربين العسكريين الأوربيين، من السويد وفرنسا، وقد جاء الخبراء الفرنسيون بقيادة سفير فرنسا الجديد، فقي عهدها الجمهوري، لدى الدولة العثمانية الجنرال أوبرت دو بابيت (الذي كان قد سبق له أن شارك في الثورة الأميركية وحارب تحت قيادة لافاريت) وقد تولى هؤلاء الخبراء الإشراف على معامل صنع المدافع، وتحديث مدرسة البحرية ومدرسة المدفعية (التي كان قد أسسها البارون دي توت) وألحقت بالمدرسة الأخيرة مكتبة كبيرة ضمت أهم ما كتب في العلوم العسكرية الحديثة والرياضيات، كما تمت ترجمة مؤلفات الخبير العسكري الفرنسي (فويان) في مجال الاستحكامات. وعلاوة على ذلك اتخذت الإجراءات من اجل تشكيل وتدريب فرق مشاة جديدة وفقا للنظام الأوربي الحديث، تحل بالتدريج محل فرق (الانكشارية) التي صارت عالة على الدولة ومن أهم أسباب انحطاطها وفي عام 1796 تم تشكيل أولى هذه الفرق وضمت (1600) جنديا، تحت قيادة ضابط إنكليزي أشهر إسلامه وسمي (إنكليز مصطفى) غير أن( الإنكشارية) والقوى المحافظة المؤتلفة معها ما لبثت أن توجست خيفة من محاولة السلطان الإصلاحية هذه، فتألبت وطالبته ليس فقط بإلغاء أوامره الإصلاحية التي سميت (نظامي جديد) بل وأرغمته على التنازل عن العرش([57]). وبعد حوالي سنة، شهدت الدولة خلالها الفتن والاضطرابات في عهد خلفه، تولى الحكم السلطان محمود الثاني (1808-1839)، الذي عمد، وقد اعتبر بالمصير الذي آل إليه سليم الثالث، إلى انتهاج نهج مغاير في تحقيق الإصلاح العسكري. فبدلا من أن يعمل على تشكيل فرق عسكرية جديدة يتم إعدادها وفقا للأساليب الأوربية الحديثة، عمل على حل ما كان قد تم تشكيله منها في عهد سلفه، وحاول أن يجري إصلاحات في أوضاع فرق (الإنكشارية) ذاتها، بالعمل على بعث تقاليدها ونظمها العسكرية الصارمة التي كانت تتبعها في عهد السلطان سليمان القانوني، 1520-1566)، وفي الوقت ذاته، تدريبها وفقا للأصول العسكرية الحديثة المتبعة في الجيوش الأوربية وتسليحها بالأسلحة النارية الحديثة وكان سبيله إلى تحقيق ذلك استصدار فتوى تؤيد خطواته تلك من جهة، وتعيين ضباط الفرق النظامية التي حلها كقادة لفرق (الانكشارية) لكي يضمن تنفيذ أوامره غير أن محاولته هذه اصطدمت باعتراضات ( الإنكشارية) وأثارت لديهم اهتياجا عنيفا، وكاد أن يخسر هو الآخر عرشه لو لم يذعن لطلباتهم، وقد أضطر إلى أرجاء مشروعه الإصلاحي عدة سنوات، حاول خلالها أن يهيئ مستلزماته بحذر وروية، ولم يتسن له أن يوجه شربة قاضية (للإنكشارية) وأن يبيدهم عن بكرة أبيهم إلا في عام 1826. وبعد ذلك أصبح سبيل الإصلاح ممهداً أمامه، فعمد إلى إنشاء مدارس عسكرية جديدة لتخريج الضباط، وتجديد ما أهمل منها، وأخذ يعيد تنظيم فرق الجيش وفقا للنظم والأساليب الأوربية الحديثة، حتى انه لم تمض السنة إلا وقد تم تنظيم عشرين ألفا واتخذت الإجراءات لكي يصل عددهم في ختام السنة التالية مائة وعشرين ألفا، وفي العام ذاته (1826) انشئت أول كلية للطب، وكان معظم أستاذتها من الأوربيين- والفرنسيين على وجه التخصيص- وكان التدريس فيها يتم باللغة الفرنسية، وفي عام 1827 أرسلت أول بعثة تعليمية عثمانية- (ضمت 150 طالبا) إلى عدة دول أوربية، وبعد ذلك بسنوات ارتفع عدد المبعوثين كثيرا حتى بلغ الآلاف، وما لبثت محاولات السلطان محمود الثاني الإصلاحية أن تجاوزت حدود المحاولات العسكرية لتشمل مختلف جوانب الحياة المدنية، فدعا إلى اتباع ما بدا له مستحسنا من العادات الأوربية، فاستبدل العمامة بالطربوش وتزيا بالزي الأوربي، وأمر بأن يكون هو الزي الرسمي لموظفي الدولة، العسكريين منهم والمدنيين. وأسس وساما دعاه (وسام الافتخار) كما انه أعد العدة لإصدار أول جريدة رسمية (صدر عددها الأول في 14 مايس 1832) ([58]).

أن ما يهمنا من ذلك كله هو التأكيد على أن المحاولات التي شهدتها الدولة العثمانية لإدخال الإصلاحات على جيشها قد اقتضت قيام اتصالات بينها وبين بعض الدول الأوربية، وإن تلك الاتصالات قد تجلت في أوجه ومظاهر عديدة، مثل الخبراء العسكريين الذين ثم استقدامهم لتحديث المناهج الدراسية والتدريبية في المدارس العسكرية، وما ترتب على ذلك من تعلم تلامذة تلك المدارس لبعض اللغات الأجنبية- والفرنسية على وجه الخصوص- وكذلك ترجمة بعض المؤلفات والكتب العسكرية الأوربية إلى اللغة التركية، وأيضا تجلى في المبعوثين الدبلوماسيين والسفراء الذين كان يتم إرسالهم إلى الدول الأوربية فيحتكون بمجتمعاتها ويتعرفون على جوانب حياتها المختلفة، وقد يعكسون، بعد عودتهم، انطباعاتهم على الأشخاص المحيطين بهم، وكذلك الحال بالنسبة للطلبة الذين أخذت الدولة العثمانية توصلهم بإعداد متزايدة للدراسة في الدول الأوربية، إذ كان معظمهم أن لم يكن جميعهم، يعودون إلى بلادهم متأثرين، إن قليلا أو كثيرا، بما شاهدوه في الدول التي درسوا فيها، وكان من الطبيعي أن يعكسوا انطباعاتهم على أوساطهم وبيئاتهم، أن أوجه ومظاهر الاتصال هذه كانت بمثابة منافذ وأقنية تسربت من خلالها نظاهر الثقافة الأوروبية، من أفكار وأساليب تفكير، إلى الأوساط المتعلمة والمثقفة العثمانية- والعسكرية منها على وجه الخصوص، والتأثير فيها على نحو ما.

بل يمكن القول أن هذا التأثير لم يقتصر على الأتراك وحدهم، بل شمل أيضا، خاصة في أوقات متأخرة، بعض الفئات المستنيرة من العرب المسلمين ولقد تم ذلك أما من خلال التحاق أفرادها بالمدارس العسكرية العليا في الأستانة، أو من خلال إطلاعها على كتابات المثقفين الأتراك المجددين([59]).

ولكن إذا كان التأثير المباشر للإصلاحات العسكرية التي شهدتها الدولة العثمانية، على أقطار المشرق العربي- من حيث تواصلها مع أوربا، قد ظل محدودا، فإن تأثيرها غير المباشر كان كبيرا جدا، وتجلى في رد الفعل القوى الذي أثارته تلك الإصلاحات في إحدى الأقطار العربية المشرقية- مصر، إذ كان لها أعمق الأثر في دفع هذه الأخيرة، عقب تولى محمد علي (1769-1849) السلطة فيها، إلى الانفتاح في علاقاتها مع أوربا، ولكن قبل الخوض في تفاصيل ذلك، لنحاول أن نتابع السياق التاريخي للأحداث، ونتعرف على الظروف التي يسرت لمحمد علي الوصول إلى دكة الحكم في مصر، بما فيها الحملة الفرنسية التي احتلت مصر طيلة حوالي ثلاثة أعوام.

عندما احتل العثمانيون مصر عام 1517، عقب إلحاقهم الهزيمة بالمماليك حرصوا على عدم المساس بنظم الحكم القائمة فيها، إلا بقدر ما يقتضيه دخولها تحت هيمنتهم ويضمن بقاءها ولاية عثمانية، ومن ثم فقد اكتفوا بإيجاد عدد من الهيئات المتباينة وجعلها تشترك معا في شؤون الحكم، يوازن بعضها بعضا حتى لا تنفرد بالحكم إحداها دون الأخرى، وتمثلت هذه الهيئات في: الوالي أو الباشا، وهو نائب السلطان العثماني في حكم مصر ورئيس السلطة التنفيذية فيها، أما الهيئة الثانية فقد تمثلت في الحامية العثمانية التي أبقيت في مصر لحفظ النظام فيها والدفاع عنها. أما الهيئة الثالثة فقد تمثلت في المماليك، وهم بقايا سلطته المماليك السابقة. وقد أبقاهم العثمانيون لحفظ التوازن بين الوالي ورؤساء الحامية، وكان زعيم المماليك يعتبر ثاني شخصية في مصر، بعد الوالي العثماني.

وقد ظل هذا النظام ساريا طالما بقيت الدولة العثمانية قوية مهابة الجانب ولكن بعد أن أخذت مظاهر الضعف والتداعي تصيب كيان الدولة انعكس ذلك على الأوضاع في مصر، وبدا التطاحن والتصارع بين الولاة ورؤساء الحامية، فما كان من المماليك إلا أن انتهزوا انشغال هؤلاء وتمكنوا من استعادة نفوذهم وسطوتهم، ثم ما لبثوا، خلال القرن الثامن عشر، أن أمسكوا بمقاليد الأمور وباتت السلطة المدنية والعسكرية في أيديهم، حتى أن الوالي العثماني لم يعد يمثل إلا اسما أو رمزا لا حقيقة لحكمه ولا هيبة له.

ولكن على الرغم من السلطة الواسعة التي أحرزها المماليك، فإنهم لم يتمكنوا من الانفصال عن الدولة العثمانية، بسبب عدم اتفاق كلمتهم وتنافسهم فيما بينهم على السلطة، حتى انه عندما حاول أحد زعمائهم، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو: علي بك الكبير (1768-1773) الانفصال عن الدولة العثمانية فإن هذه الأخيرة عمدت إلى تأليب قائد قواته (محمد بك أبو الذهب) عليه، فانقض على سيده وهزمه وخلفه في السلطة، إلا أن أبا الذهب هذا لم يتسن له حكم مصر إلا فترة قصيرة، فقد توفي عام 1775. وما لبثت مقاليد الأمور أن آلت من بعده إلى اثنين من زعماء المماليك، يدعى أحدهما (مراد) والآخر (ابراهيم) وقد أساء هذان استخدام سلطتيهما، وارتكبا الكثير من المظالم في حق أبناء البلاد من المصريين، بل أن مظالمهما، طالت حتى الأجانب المقيمين في مصر، وكانت غالبيتهم من الفرنسيين، فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى حكومة الثورة في فرنسا، يستنجدون بها ويطالبونها بالتدخل لحمايتهم من تسلط ذينك الطاغيتين([60]).

وكانت فرنسا- التي استطاعت عن طريق علاقاتها الوثيقة مع الدولة العثمانية ونتيجة لتوقيع معاهدة (الامتيازات) أن تحتكر تجارة الشرق- تتطلع منذ القرن السادس عشر، ولاسيما بعد أن أخذت كلا من بريطانيا وهولندا تتنافسان من أجل السيطرة على الطريق البحري للتجارة مع الشرق المار عبر رأس الرجاء الصالح كانت تتطلع إلى إحياء الطريق التجاري البري، سواء الذي يمر عبر العراق وسورية والمدن الساحلية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، أو طريق البحر الأحمر الذي يمر عبر مصر، من خلال خليج السويس ثم من خلال طرق مائية أو برية إلى النيل ومنها إلى موانئ مصر على البحر الأبيض المتوسط. بل أن بعض المهتمين بهذه المسألة قد راودتهم في هذا السياق فكرة شق قناة بحرية توصل بين البحرين الأحمر والأبيض وكان ذلك يقتضي، ضمن ما يقتضيه، قيام فرنسا باحتلال مصر. إلا أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة لم تبد أي اهتمام بمثل هذه المشاريع، مكتفية بحرصها على المحافظة على مصالحها التقليدية في الطريق البري.

ولكن بعد الثورة الفرنسية (1789)، تغير موقف فرنسا من تلك المسألة لاسيما بعد أن توترت علاقاتها مع بريطانيا وأخذت تعد العدة لمحاربتها، وفي 12 نيسان 1798 قررت (حكومة الإدارة) احتلال مصر، وصدرت التعليمات إلى نابليون بونابرت (1769-1821) بتجهيز الحملة وقيادتها، ولقد اتهمت (حكومة الإدارة) في قرارها الذي أصدرته، زعماء المماليك- (مراد) و (إبراهيم) بالتحالف مع البريطانيين، وإنهاء المهام التي كلف بها نابليون هي: الاستيلاء على منطقة ومصر، وطرد الإنكليز من مؤسساتهم في المشرق ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وشق قناة السويس لكي تكون الطريق البديل لطريق رأس الرجاء الصالح الذي يسيطر عليه البريطانيون، وتحسين الأحوال المعيشية للوطنيين في مصر، والاحتفاظ بالعلاقات الطبية مع الباب العالي([61]).

وفي الأول من تموز 1798 وصلت الجملة إلى الإسكندرية وشرعت في احتلالها تمهيدا للتوغل في داخل مصر وصولا إلى القاهرة. والواقع أن ما يهمنا، هنا، من أخبار الحملة إنما يقتصر على ما يمكن أن تكون قد أحدثته من تأثيرات حضارية وثقافية([62])، في مصرن لاسيما وأن نابليون قد الحق بجيشه الذي بلع عدد أفراده حوالي (40,000) جنديا مجموعة من العلماء الفرنسيين المختصين في مختلف صنوف المعرفة بلع عددهم (146) شخصا، شكلوا ما سمي( لجنة العلوم والفنون) ([63]). وقد حمل هؤلاء معهم كمية كبيرة من الكتب والأجهزة والمعدات العلمية، كما أن نابليون جلب معه أيضا مطبعتين، إحداهما فرنسية والأخرى عربية، ويبدو أن الأخيرة كانت معدة للطباعة باللغة التركية أيضا([64]). وعندما استقر المقام في القاهرة، بادر إلى تأسيس ما صار يسمى بـ( المعهد المصري) أو كما سماه عبد الرحمن الجبرتي (1754-1822) المؤرخ المصري المشهور (مدرسة العلم) ([65]) أو (مدرسة العلماء([66])، التي ألحقت بها مكتبة تضم عددا كبيرا من الكتب في مواضيع مختلفة وبلغات عديدة، ومرصد فلكي يضم الكثير من الآلات والمعدات الفلكية، ومرسم، ومتحف للتاريخ الطبيعي، وورشة هندسية، وصيدلية ومختبر، ومعامل نجارة وحدادة([67]). كما أصدر جريدتين باللغة الفرنسية، هما: Le Decade Egyptien وهي جريدة اقتصادية خصصت لنشر أبحاث المعهد المصري، وتصدر كل عشرة أيام مرة، وجريدة Le Gourrier Egypte الناطقة بلسان السلطات الفرنسية وكانت تصدر منه كل أربعة أيام، كما أصدر جريدة عربية سميت (التنبيه) لنشر بياناته على الناس([68])، وما أن تأسس (المعهد المصري) حتى شرع أعضاؤه من العلماء الفرنسيين في دراسة أحوال مصر وظاهر الحياة فيها، تاريخها وآثارها، مناخها وجغرافيتها وتكوينها الجيولوجي، معادنها ونباتها وحيوانها وإمكاناتها الاقتصادية، عادات سكانها وتقاليدهم الاجتماعية وغير ذلك، ولقد حدت بهم الرغبة في استمالة الفئة المتعلمة المتنورة من سكان البلاد إلى دعوة بعض مشايخ الأزهر وطلاب العلم النابهين إلى زيارة المعهد والإطلاع على ما يحتويه من كتب وأجهزة ومعدات، وما يجري فيه من تجارب واختبارات علمية، وقد وصلت الينا انطباعات اثنين من هؤلاء الزوار عن زيارتهم للمعهد، وأولهما هو المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، الذي ذكر أنه، ذهب إليهم مرارا" ووصف في كتابه (تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار) بأسلوب يشوبه الانبهار والإعجاب ما شاهده خلال زياراته للمعهد ومختلف ملحقاته من "أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا([69])" والثاني هو الشيخ حسن بن محمد العطار (1766-1835) الذي توثقت صلته بالعلماء الفرنسيين من خلال قيامه بتعليم بعضهم اللغة العربية، وتعلم منهم، بالمقابل، بعض علومهم العصرية، بل وكثيرا ما كان يتردد على المرصد الفلكي حيث "كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية" ولقد أعرب العطار في معرض كتابه (المقدمة الأزهرية في علم العربية) وعلى لسان راوٍ صديق، عن انبهاره بما شاهده في المعهد من الأجهزة والكتب، وكلها في العلوم الرياضية والأدبية، وإطلعوني على آلات فلكية وهندسية([70]). ولقد بلغ تجاوبه وتأثره بما إطلعه عليه العلماء الفرنسيون حدا غدا معه مؤمنا بأن "بلادنا لابد أن تتغير ولا بد أن تأخذ عن أوربا العلوم التي لا توجد هنا"([71]). ومن ثم فقد انصرف إلى الكتابة والتأليف في بعض العلوم العصرية كالفلك والطب والطبيعة والكيمياء والهندسة، كما يستدل على ذلك من قائمة مطبوعاته من جهة ومن ما حفلت به حواشي كتبه المختلفة من شروح وتعليقات من جهة أخرى([72]).

ولا بد لنا هنا من وقفه نمحص خلالها بعض الآراء التي راجت بشأن مدى التأثير المباشر للحملة الفرنسية في أحداث اليقظة الفكرية والثقافية العربية الحديثة.

الصفحات