كتاب " توماس هوبز ومذهبه في الأخلاق والسياسة " ، تأليف نبيل عبد الحميد عبد الجبار ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب توماس هوبز ومذهبه في الأخلاق والسياسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

توماس هوبز ومذهبه في الأخلاق والسياسة
المقدمة
امتاز توماس هوبز Thomas Hobbes بخصائص عديدة جعلته، منذ تألق نجمه كفيلسوف وحتى أيامنا هذه، موضع اهتمام خاص، بشكل أو بآخر. فهو قد كرس نفسه لمعارضة الاتجاه الأرسطي والفكر المدرسي في وقت كانا يحظيان فيه، في انكلتره، بقبول واحترام معظم الأوساط المتعلمة وأساتذة الجامعات. وكرس نفسه لإقامة نظام فلسفي عقلاني، في وقت كان سلفه "فرانسيس بيكن -Francis Bacon" وقد أرسى دعائم نزعتين صارتا، بعدئذ، بمثابة تقليدين مميّزين حرص على تجسيدهما سائر الفلاسفة الانكليز بعده (باستثناء هوبز بالطبع) وهما: الكره الشديد لفكرة إقامة النظم الفلسفية([1])، والنزعة التجريبية. حيث جاهر باتجاهه المادي ونزعته الالحادية في وقت كانت معتقدات الناس الدينية فيه على أشد ما تكون من القوة والرسوخ، ويكفي للتدليل على ذلك أنهم، في أعقاب تفشي وباء الطاعون ونشوب حريق لندن الكبير (1665 ــ 1666)، لم يترددوا في الافصاح عن اعتقادهم بأن ذلك لم يكن إلا تعبيراً عن غضب الله ونقمته عليهم لسماحهم لـ "ملحد" كهوبزبنشر هرطقاته" دون عقاب. كرس نفسه لمناوأة نفوذ وسلطان رجال الدين واللاهوتيين ــ وبالأخص البيوريتان Puritan والكاثوليك ــ وتسفيه "عقائدهم الشريرة"([2])، في وقت كان دور هؤلاء في توجيه مقاليد الأمور ــ على كافة الأصعدة: السياسية منها، والعلمية، والاقتصادية([3]) ــ ما فتئ يتعاظم ويزداد خطورة، وبلغ ذروته في نجاحهم في الإطاحة بالملك تشارلس الأول ــ Charles I واعدامه (عام 1649) ([4]). الذي جاهر بدعوته إلى إقامة نظام حكم مطلق السلطة والصلاحيات، في وقت كان مسار الأحداث قد قطع فيه شوطاً طويلاً لصالح دعاة الديمقراطية وأنصار التمثيل الشعبي، وكانت جذور الملكية على وشك أن تقتلع من أرض انكلتره إلى الأبد. كل هذه الصفات والمواقف (وأخرى غيرها) ضافرت في جعل هوبز، طوال حياته وبعد ذلك مدة قرن من الزمان، فيلسوفاً "متميزاً" تصدح أفكاره بنغمات "ناشزة" لا تنسجم مع الاتجاهات والمذاهب الفكرية والسياسية التي انضوى تحتها غالبية أبناء وطنه([5]).
على أن هذه الصور القاتمة لهوبز ما لبثت ــ مع بداية القرن العشرين ــ أن تبدلت لتحل محلها، في أذهان المهتمين بالفلسفة صورة أزهى وأكثر إشراقاً. حيث بدأ الاهتمام بفلسفته يتخذ طابعاً آخر أقرب إلى الموضوعية والانصاف، وتبين للكثير من الباحثين أن "البعبع ــ bete noire" الذي ظل طوال عصر كامل يقض مضاجع خصومه، بأفكاره "المؤذية" و "المرعبة" إنما هو يعد "أعظم كاتب في مجال الفلسفة السياسية، انجبته الشعوب الناطقة بالانكليزية"([6]) وأن أفكاره الناقدة تنسجم بشكل مذهل مع الواقع، وتبدو "أكثر صلة بالقرن العشرين منه بأي وقت آخر منذ أن انجز كتابه التنين Leviathan"([7]).
وعلى الرغم من أن أسباباً عديدة قد حدت بالباحثين المعاصرين إلى اتخاذ هذا الموقف الجديد من هوبز، والاهتمام بشكل متزايد بكتاباته، إلا أنني اعتقد أن السببين التاليين كانا بمثابة الحافز الرئيس لذلك:
أولاً: طبيعة العصر والمناخ السياسي العام الذي خيّم على العلاقات الدولية. حيث لاحظ الباحثون أن الكثير من آراء هوبز في الإنسان تجد مصداقاً لها في عدد من الاتجاهات المتجسدة بالفعل في مضمار العلاقات الدولية، فهم قد وجدوا ــ على سبيل المثال ــ في الاتجاه، الذي يشهده العالم نحو التسلح والسعي المطرد من أجل إيجاد أشكال جديدة ورهيبة من "القوة" المدمرة (لعل آخرها القنبلة الهيدروجينية والأسلحة الجرثومية والكيماوية) تجسيداً لما قرره هوبز في قولته الشهيرة: "اني أجعل من رغبة دائمة لا تستقر في القوة بعد القوة، وهي رغبة لا تهدأ ولا تتوقف إلا عند الموت، ميلاً عاماً لدى البشر جميعاً"([8]). كما أنهم وجدوا في ما تقترفه "أكثر الجماعات تحضراً" في حق غيرها، من فضائح وجرائم وحشية، تصدم في هولها حتى أشد الناس تشاؤماً وأكثرهم تشككاً في طيب الدوافع الإنسانية تجسيداً لما عزاه هوبز للبشر من ميول ودوافع في سياق وصفه لما أسماه بـ "الحالة الطبيعية للبشر([9]).
ثانياً: ما وجده الباحثون في كتابات هوبز في مجال اللغة من آراء أصيلة ومبتكرة (مثل معالجته للموضوعات السيمانتيكية Semantical matters واستخدام أساليب التحليل المنطقي) استبق فيها الكثير من الآراء، التي باتت في عصرنا هذا تحظى باهتمام متزايد من جانب فلاسفة اللغة([10]). وأن ذلك، بدوره قد وجه اهتمامهم إلى دراسة الجوانب الأخرى من فلسفته([11]).
ولست بصدد الزعم بأن هذه الأسباب هي التي أثارت لدي الاهتمام بفلسفة هوبز، والرغبة في بحث نظريته الأخلاقية، فالواقع أن فكرة الكتابة عن نظريته الأخلاقية لم تراودني إلا صدفة، وفي ظروف خاصة، عقب اتمامي السنة التحضيرية لدراسة الماجستير. إذ اقترح علي أن أتقدم إلى لجنة الدراسات العليا بقسم الفلسفة بقائمة تضم عدة موضوعات، كي تتولى اختيار موضوع نظرية هوبز الأخلاقية ضمن القائمة. وشاءت اللجنة أن تختار لي هذا الموضوع بالذات.
بيد أني ما أن شرعت في الاستعداد للكتابة في هذا الموضوع، وجدت أسباباً عديدة تشدني إليه وتزيد اهتمامي به، وأهم هذه الأسباب:
أولاً: أن آراء هوبز الأخلاقية تحتل مكانة خاصة في تاريخ الفكر الأخلاقي الأوروبي، ويكفي للتدليل على ذلك أن نعرف أن مذهبه الأخلاقي قد "أثار مشكلات أخلاقية شغلت تفكير معاصريه وخلفائه"([12]). وأنه كان الأساس الذي قامت عليه الفلسفة الأخلاقية لمعظم من جاءوا بعده من الفلاسفة ــ سواء من الانكليز، أو من الأوروبيين عموماً([13]).

