لقد حفظ لنا تاريخ الفكر الإنساني مجموعة هائلة من الآراء والنظريات في المشاكل التي طرحت على بساط البحث، كما قدم لنا المناهج التي اتخذها المفكرون وهم بصدد الوصول إلى نتائج أبحاثهم، هذا بالإضافة إلى الاستدراكات التي قدمها اللاحقون على السابقين، مما يشكل تاريخ
قراءة كتاب إخوان الصفا وفلسفتهم الدينية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
المبحث الثالث
مكــان نشـأتهــم
كما اختلف الباحثون حول العصر الذي نشأت فيه جماعة الإخوان، اختلفوا كذلك حول مكان نشأتهم. فالبعض يرى أنها ظهرت في البصرة، ليسهل اتصالهم بكثير من أصحاب المذاهب، حيث كانت هذه المدينة أقدم المدن تأثراً بالفكر اليوناني، وأقربها من روافده، والروافد الشرقية المختلفة، وجدت بيئة علمية تغص بالعلماء والأدباء والشعراء والمتكلمين، وأهل الديانات والفلسفات المختلفة، فأتاحت لإخوان الصفاء أن ينهلوا من منابع الفكر المتعددة، والتي انعكست في تفكيرهم ورسائلهم، وفي هذا الموقع الجغرافي التي صبت فيه كافة الآراء، بل اختلطت وتطاحنت أيضاً، إلى جانب ما يسمح به من سهولة اللقاء مع الغير وحرية الرأي، فمن المتوقع أن يظهر أمثال (إخوان الصفاء) ويتخذوها مقرهم الرئيسي، ومنها تمتد وتنتقل دعوتهم إلى أنحاء البلاد(1).
وقد اعتمد هذا الفريق في رأيه هذا على عدة اعتبارات منها:
أ- ما ذكره أبو حيان التوحيدي في معرض حديثه عن (زيد بن رفاعة) - الذي ظن أنه أحد مؤلفي رسائل الإخوان - «وقد أقام في البصرة زماناً طويلاً، وصادف بها جماعة لأصناف العلم، فصحبهم وخدمهم»(2). وأيضاً ما ذكره (ابن النديم) من أن (العوفي) وهو أحد أعضاء الجماعة، قد أقام بالبصرة(3).
ب- أن البصرة كانت حاضرة علم قديمة، نشأ فيها عدد من الحركات السياسية والعلمية والفكرية والروحية. فهي كما يقول الدكتور الدسوقي: منذ أسست في عهد الخليفة الثاني الفاروق (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) وهي تمثل عاصمة الإسلام في العلم، ومحط كثير من رجال الفِرَق الدينية المتعددة، ففيها ظهر المرجئة والقدرية، وفيها نشأ الحسن البصري، وواصل بن عطاء زعيم المعتزلة، وفيها ظهر النَّظَّام(4) الذي خلط الدين بالفلسفة، وفيها قام عبدالله بن ميمون القداح بفتنة القرامطة، وفيها قام أبو الحسن الأشعري يتنصل من الاعتزال ويدافع عن عقائد أهل السنّة، وكان بالبصرة حلقات للعلم من كل فن(5).
وإذا كانت المصادر تكاد تجمع على أن البصرة هي مكان نشأتهم، فإن ما عُرف عن البصرة والكوفة منذ القرن الأول للهجرة يؤيد هذا، إذ لم تكن هناك مدينة أخرى تستطيع منافستهما في مكانتهما العلمية. ذلك أن الاهتمام بالبحث والدراسة بدأ فيما بين النهرين، وخاصة في البصرة، وبصورة أقل في الكوفة(6).
ومن المعروف أنه قامت في البصرة والكوفة منذ العصر الأموي حركة فكرية قوية عمادها القرآن وما يتصل به من علوم دينية ولغوية، ثم ما لبثت هذه الحركة أن امتدت لتشمل الفقه والحديث والفلسفة، وكانت هذه الحركة الفكرية متأثرة إلى حدٍّ كبير بالآراء اليونانية التي تسربت إلى هاتين المدينتين نتيجة لقربهما من الحيرة معقل النساطرة(7).
فالبصرة كانت مركز الفكر الإسلامي، لأن موقعها الإستراتيجي مناسب، لأنها أقرب مدينة عربية إلى الأهواز ففارس، فهي تقع على باب الصحراء التي فرّ إليها كل مخالف للنظام القائم، أو خارج عليه، فيسهل على من فيها التعبير عن آرائه أكثر مما لو كان في مقر الخلافة.
وهي لهذا كانت ملتقى رجال الشرق الوثني من فرس وهنود وديلم برجال الإسلام، ففيها التقت (المانوية) و(الزرادشتية) و(البرهمية) و(الصابئة) و(الدهرية)، وغيرها من الديانات القديمة التي غزاها الإسلام بسهولته وقربه إلى الفطرة الإنسانية(8).
وقد يكون توفر هذه الصفات سبباً في اختيار جماعة الإخوان للبصرة مكاناً لإقامتهم، إذ إنها تساعد على استتارهم وهروبهم إن اكتشف أمرهم، وتمكنهم أيضاً من بث دعواهم ونقلها إلى داخل العالم الإسلامي من خلال الحركة العلمية التي تموج بها البصرة، فهي موطن رجال الفكر والفلسفة، والدراسات العقلية واللغوية، وحيث كانت البصرة مركزاً للفكر الإسلامي الناهض، وذات موقع إستراتيجي مناسب، اتخذها الإخوان مركزاً لهم، ومن هذا المركز الحيوي انتشرت دعوتهم التي حملها أتباع مخلصون في كافة أنحاء الدولة الإسلامية(9).