كتاب " دراسات في النص الشعري العباسي " ، تأليف د.أحمد علي الفلاحي ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في النص الشعري العباسي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وعلى الرغم من كثرة هذه الدراسات وتعددها، وتعدد الآراء التي قيلت فيها وفي وصف المعري وتقييم نتاجه الأدبي والفكري بين مادح وقادح، كلٌ حسب تخصصه وسعة اطلاعه وفهمه نتاج المعري، وتعدد الآراء والثناءات والتهم التي ألصقت به وبفنه، فإن ذلك لم يمنع من الإدلاء بدلونا، بل كان سبباً مباشراًً لهذه الدراسة في محاولة منا للنظر الى فكره ونتاجه الأدبي الفكري من زاوية ربما لم تأخذ حقها من التأليف والدراسة طامعين أن نخرج من بين هذه الدراسات بدراسة استقرائية تحليلية لهذه الدراسات وما خلّفه المعري من نتاج أدبي وفكري والوصول الى رأي ينصفه مما نسب إليه من آراء وأفكار.
ويبدو أن أغلب النقاد والمؤرخين القدماء أطلقوا آراءهم وأقوالهم على شخصية المعري من خلال بعض الأبيات الشعرية التي قالها أو نسبت إليه، فقوّلوه ما لم يَقُل، لذلك خضع بعضها لأحكام عابرة أو سطحية تخلو من العمق والتأمل،وتبدو مسوقة في اطار القراءة التقريرية غير المتخصصة التي لا تقدم مسوغاً للقناعة لإثبات ما ألصق به من شتى النعوت والأوصاف فضلاً عما تحمله بين طياتها من تعصب واتهامات.
بيد أن ثمة ما يُغرينا في إعادة تأمل نتاجه الأدبي ما يتيح لنا فرصة الكشف عن حقيقة أخرى تنفي في مضمونها ما نسب إليه من تُهم الالحاد والزندقة وافكار الفلاسفة وغيرها.
وعادة ما يعتمد النقاد شعر الشاعر للوصول الى تحليل شخصيته وعُقده وشذوذه وبيان أثر هذه الحالات النفسية في فنه.([4]) الا اننا سنتخذ من فهمنا لشخصيته طريقاً أو مسلكاً ننهجه لدراسة وفهم نتاجه الأدبي والفكري من خلال التفسير النفسي لبعض السلوكيات، وما روي عنه من ردود فعل تجاه ما يحيط به، كي لا نكرر ما قاله القدماء، وطموحاً منا أن نكون بمستوى الفهم الحقيقي لما قاله وقصده في نتاجه الأدبي، غير متناسين ظروف العصر والبيئة والنشأة والثقافه وما أتصل بها من عوامل الأستعداد النفسي والفكري والموروث الثقافي، فضلاً عن تكوينه النفسي والخلقي والمزاجي. كون الشعر يعبر عن بعض الحالات النفسيه التي عاشها أو يعيشها الشاعر والتي تظهر متأثرة ببعض المفاهيم التي يستقيها من بيئته ([5])، إذ أن العلاقة بين مفاهيم مجتمع معين ومواقف رد الفعل تبدو جليه واضحة لا يمكن التغافل عنها.
ولا يمكن إنكار علاقة الأدب بالنفس، فالنفس تصنع الأدب، وقد يرقّي الأدب النفس، فالنفس (تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب، والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يضيء جوانب النفس)([6]). والأديب الواعي الصادق يعبر عن همومه ورغباته وعواطفه، ويحاول أن يوصل عمله إلى غيره، حتى يعيش التجربة معه كل متلقي بطريقته وسعة خياله وعمق تجربته.
لقد حاول أبو العلاء المعري أن يختلط بمجتمعه، وأن يكون فاعلاً ومتفاعلاً إلا أن قسوة المجتمع آنذاك وأنانية وجهل بعض المتسلطين، فضلاً عن حساسيته المفرطة حالت بينه وبين المجتمع لذلك نراه يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسـأل عـن الخبـر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتـي
وكون الروح في الجسد الخبيث([7])
والأبيات تعبّر عن زهده من الدنيا، ونقد الناس إليه، وشدة نقده الناس الذين تبعوا الدنيا فجعلتهم تحتها، وربما كان يرى نفسه فوقها. وكان بعض العلماء يتعمّد الإساءة للمعري حتى قبل أن يسمع منه، فقد حفظت لنا الأخبار حكايات منها قول ابي القاسم التنوخي: إنه لما قدم المعري بغداد، ودخل على عليّ بن عيسى الربعي ليقرأ عليه شيئاً من النحو، قال له الربعي: ليصعد الاصطبل، فخرج مغضباً ولم يعد إليه.([8])
فيما كان بعضهم يزوره قصد الإساءة إليه والانتقاص منه، فقد قيل: (إن رجلاً من قراء المعرة يعرف بأبي القاسم طلب إليه أن يقرأ شيئاً من القرآن أمام أبي العلاء، فتلا قوله تعالى: )وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً([9]).
ومرة أخرى دخل عليه الوزير المشهور بالمنازي فسأل أبا العلاء: ما هذا الذي يرويه الناس عنك؟ قال أبو العلاء: قوم حسدوني، فكذبوا عليّ، فتابع المنازي: وعلام حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ فقال أبو العلاء: والآخرة، ثم أطرق ولم يكلمه حتى قام عنه.([10])