كتاب " المالية العامة " ، تأليف محمد خصاونة ، والذي صدر عن دار المناهج للنشر والتوزيع ، ومما جاء في
قراءة كتاب المالية العامة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نظرة الإسلام إلى المال
تطلق كلمة المال لا للدلالة على النقود من معدنية وورقية فحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل إن كل ما ينتفع به على أي وجه من وجوه النفع يعد مالاً، كما أنه يعد كل ما يقوم بثمن مالاً أياً كان نوعه وأياً كانت قيمته.
فالمال إذن هو الملك، والملك أو التملك غريزة فطرية من أقوى الغرائز الإنسانية لا تكاد تدانيها غريزة أخرى غير غريزة حب البقاء، بل أن البقاء والتملك ليكادان يكونان غريزة واحدة، إذ لا بقاء للإنسان بغير شيء يملكه.
ولا جدال أن الرغبة في التملك ومن ورائها غريزة حب البقاء هي سر الحركة الدائبة في الحياة، وهي التي توجه نشاط الإنسان في كل ميدان من ميادين العمل والإنتاج. لهذا كانت دعوات النبيين والمصلحين متجهة إلى التخفيف من حدة هذه الغريزة –غريزة حب التملك- ودعوة الناس إلى شيء من القناعة وشيء من الأخاء والمحبة. كما تذهب الاشتراكية وغيرها من الفلسفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مذاهب مختلفة في محاولة التخفيف من حدة الرغبة في الاستحواذ على الكثير من المال وإيجاد شيء من التوازن بين من يملكون الكثير ومن لا يملكون أو يملكون القليل. والفقر في ذاته مشكلة والغنى في ذاته أيضاً مشكلة، والفقر والغنى حين يجتمعان مشكلة كذلك. ولا تقوم الحياة إلا وعلى جانبيها الفقر والغنى في نسب تتفاوت حسب الظروف والأحوال، بل
إن مشكلة الحياة في حقيقتها هي الفقر والغنى وما يكون بين الفقراء والأغنياء من أحاسيس وعلاقات، ولا شك أنه إذا استطاع مجتمع من المجتمعات أن يتغلب على هذه المشكلة ويقارب بين طرفيها فإنه يكون بذلك قد خطا خطوات نحو استقرار
المجتمع وسعادته.
وقد كان لا بد للدعوات السماوية أن تتدخل في مشكلة الفقر والغنى –مشكلة الحياة- لتقيم في نفوس الناس وازعاً يعمل على تحقيق التوازن بينهم كما يعمل على إقامة المجتمع الإنساني الذي تبتغيه. أما رسالة موسى لبني إسرائيل فقد حرفوا فيها لتستقيم مع طبيعتهم وما درجوا عليه من معتقدات، فساروا سيرتهم في عبادة المال وأحلوا الربا من غيرهم وحرموه فيما بينهم.
وجاء عيسى عليه السلام برسالته إلى اليهود أيضاً بعد أن ركبهم ما ركبهم من حب المال ملك عليهم عقولهم، فلم يكن بد والحالة هذه من أن تكون دعوة عيسى لهم دعوة قاسية حتى تقوم هذا الانحراف العنيف، فكانت شريعة عيسى على هذا النحو دعوة فيها انسلاخ كامل عن الدنيا وما فيها من متاع.
أما الإسلام فقد أعلن منذ أول آية نزلت من آيات الكتاب الكريم أنه دين الإنسانية كلها، الإنسانية المتمثلة في الإنسان الفرد. لهذا لم تكن شريعة الإسلام لتعالج مشكلة أو لتحل أزمة طارئة في شعب من الشعوب، وإنما جاءت لتعالج مشكلات الحياة كلها ولتحل أزمات الإنسانية جميعها على امتداد الأزمان واختلاف الأمم. ويعترف الإسلام بما للمال من مكانة في قلوب الناس وما له من اثر في حياتهم وما له أيضاً من سلطان على نفوسهم. وليس أدل على نظرة الإسلام نظرة واقعية للمال من أنه ذكر في القرآن الكريم أكثر من مرة مقترناً بالأولاد أو الأنفس، بل أنه قدم عليهما في أكثر الآيات، كما أنه ليس أدل على ما يوليه الإسلام من تقدير للمال من أن المال وهو مال الله قد أضافه إلى ذاته الكريمة، ولا شرف بعد هذا الشرف، .
ولكن الإسلام رغم هذا يحذر من غواية المال وفتنته، وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أن المال في ذاته شر، أو أن الإسلام عدو للمال، فالمال هو الحياة في انطلاقها ودورانها، والإسلام لا يعادي الحياة وهو دين الفطرة ودين الحياة في أكمل صورها. إنما أراد الإسلام بتحذيره من غواية المال وفتنته أن يبرز للناس حقيقة هامة وهي أن المال وسيلة لا غاية، وبهذا يؤدي وظيفته في الحياة، وأن المال في ذاته ليس خيراً مطلقاً وليس شراً مطلقاً، فهو أداة خاضعة لمشيئة الإنسان، إن شاء كان نعمة ينال به الطيبات ويرعى فيه حق نفسه وولده ويؤدي منه حق الله وحق العباد، ون شاء حول النعمة التي في يديه إلى نقمة ونار تحرقه وتحرق من حوله حيث يذهب به مذاهب السفه ويرد به موارد
الإثم والفساد.
ومن هنا كانت التشريعات والحدود التي وضعها الإسلام للمال في كسبه وإنفاقه قائمة على أساسين: أولهما الاعتراف بالمال وفعاليته في الحياة، وثانيهما- الوقوف بالتشريع عند المبادئ العامة دون النظر في التفصيلات كي يترك للناس مجال التحرك والعمل في ظل المبادئ العامة محتكمين في ذلك إلى عقولهم- فالإسلام دين خالد ممتد مع الحياة لا يريد للناس أن يعملوا تحت وصاية صارمة من مقررات السماء، بل يريد للإنسانية أن تبلغ رشدها بما تقضي به مصلحتها، وهذه هي أسمى مراتب التربية الحكيمة في تنمية الشخصية وإعدادها للحياة.
وهكذا يحق للباحث في أية مسألة من المسائل المالية ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية الغراء أن يستصحب معه هذين المبدأين وهما احترام الإسلام للمال واحترامه أيضاً للعقل الإنساني، مع استصحاب المبدأ العام الذي اتسمت به شريعة الإسلام وهو اليسر والتخفيف، فالإسلام يأخذ بالوسط من الأمور إلى جانب أنه دين عقل ومنطق.