قراءة كتاب المالية العامة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المالية العامة

المالية العامة

كتاب " المالية العامة  " ، تأليف محمد خصاونة ، والذي صدر عن دار المناهج للنشر والتوزيع ، ومما جاء في

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار المناهج
الصفحة رقم: 10

هذا وقد راعت الشريعة السمحاء اعتبارات عملية في فريضة الزكاة منها:

1- ليس في الحيوانات العاملة صدقة، فبقر الحرث وجمال الحمل أو الانتقال ليس فيها صدقة. وعلة هذا أن هذه الحيوانات إذا استمتع بها الناس صارت بمنزلة الدواب المركوبة والتي تحمل الأثقال من البغال والحمير، وأنها إذا كانت تسقي الزرع وتحرث الأرض فإن الحب الذي تجب فيه الصدقة إنما يكون حرثه وسقيه بها، فإذا صدقت هي أيضاً مع الحب صارت الصدقة مضاعفة على الناس.

2- الحيوانات التي تتخذ في البيوت ونحوها لينتفع أصحابها بألبانها في طعامهم وليست للتجارة لا زكاة فيها.

3- الحلي التي يتزين بها لا زكاة فيها، وزكاتها إعارتها.

4- صدقة الزروع: إذا كانت مما سقته السماء أو الينابيع من غير جهد مبذول ففيها نصف العشر، وإن سقيت بالعمل واستنباط الماء ففها ربع العشر.

أما عن أوجه إنفاق موارد بيت المال فقد جعلها الله إلى يد ولاة المسلمين يضعونها فيما يصلح من شأن الدولة الإسلامية ويمكن لها. فما وقع في يد رسول الله مال إلا أطلقه إلى كل جهة لينتفع به من ينتفع، وكذلك نهج صحابة رسول الله على هذا الهدي النبوي. وهكذا ذهب هذا المال كل مذهب في مذاهب الخير والنفع: سد فقر المسلمين، وقوى جيوشهم، ودعم حصونهم، وفك أسراهم، وكفل أيتامهم، وأعتق رقيقهم، وقضى دينهم.

العمل ورأس المال في الإسلام

العمل هو المصدر الطبيعي والوسيلة الأصلية للكسب، ولهذا دعا الإسلام إلى العمل في الحياة- العمل الذي يثمر طيباً، ينفع صاحبه وينتفع به أهله وولده والمجتمع الذي يعيش فيه. فالحياة حركة، والحركة عمل، وكل ثمرة في هذا العالم الذي نعيش فيه هي نتاج عمل وثمرة حركة. ومن أجل هذا كانت دعوة الإسلام إلى العمل دعوة قوية صريحة، بل إن الباحث في الشريعة الإسلامية يرى فيها أن العمل ضرب من العبادة وان الإنسان ما خلق إلا ليعمل.

هذا وقد اعترف الإسلام برأس المال كقوة عاملة في الحياة. فالإسلام لم يعترض على ما بأيدي الناس من فائض أموال، وهو ما يقوم عليه رأس المال، سواء كان هذا الفائض نقداً أو عيناً، بل أنه ذهب إلى أكثر من هذا فدعا الناس إلى الاقتصاد في الإنفاق والتوسط في البذل وحجر على السفهاء وأقام الأوصياء على الصغار- كل هذا ليظل المال سليماً من عوارض الإفساد والتضييع. ولو كان الإسلام يعادي رؤوس الأموال لدعا إلى التخلص منها أو لسكت عن النصح لحفظها ووقايتها، ولكنه دعا إلى صيانة المال والاعتدال في إنفاقه والضن به عن مواطن السرف والتبذير. كذلك فرض الإسلام الزكاة في الأموال إذا حال عليها الحول في يد صاحبها وكانت زائدة عن نفقته ونفقة عياله، ونظم عملية الدين، وحرم الربا- وكل هذه الأمور لا تقع إلا حيث يكون المال فائضاً في يد أصحابه زائداً عن الحاجة، فتخرج عنه الزكاة أو ينال منه المحتاجون بالقرض الحسن. ومن جهة أخرى فقد أباح الإسلام المشاركة في التجارة والمزارعة، وهي كلها معاملات تتضافر فيها قوى العمل ورأس المال، كذلك اقتضت حكمة الشريعة الإسلامية احترام الميراث، وهو نقل ملكية ما تركه المتوفى إلى أقرب الناس إليه. وهذا حق وعدل، فالذي يعمل ويكد ويحصل على ما يزيد عن حاجته ثم يتجمع له من هذا الفائض شيئاً إلى أن يدنو أجله هو حق لذوي قرابته من ولد وزوج وغيرهم- إنه ما كان ليبذل ما بذل من جهد ولا ليمسك يده عن التبذير والإسراف لو قدر أن ما يجمعه صائر إلى يد غير يد فرعه أو أصوله. ونظام الإسلام في الميراث نظام عادل حكيم، وضع الورثة وأنزلهم منازلهم في تركة الموروث حسب قرابتهم وحسب وضعهم الاجتماعي في الحياة وما تفرضه عليهم هذه الأوضاع من تبعات وأعباء يتلقونها عن الموروث كما تلقوا عنه تركته أو بعض تركته.

ولقد حرص الإسلام على احترام الملكية وصيانتها من عبث العابثين، بأن أقام إلى جانب الوازع النفسي وازع السلطان المستند على الحكمة والحرمة، لما في ذلك كله من إشاعة أسباب الاستقرار بين الناس وحفزهم إلى العمل والإنتاج.

نعود فنقول إن الإسلام قد اعترف برأس المال كقوة لها مكانها في الإنتاج ولها نصيبها من الربح، ولكنه لم يتدخل في الأسلوب الذي تقوم عليه الصلات بين العامل وصاحب رأس المال إلا فيما وضعه من الأصول العامة للحياة الإنسانية من النهي عن الظلم وأكل أموال الناس بالباطل.

فيجب على صاحب رأس المال أن يوفى العامل أجره كاملاً، كما يجب أن يكون العامل أميناً في عمله باذلاً جهده له غير مقصر فيه. وفي ظل هذا الإحساس الإنساني العادل الأمين أقام الإسلام الصلة بين العامل وصاحب رأس المال، ولم يشأ أن يتدخل في تحديد أجر العامل ولا في قسمة الربح بين العامل وصاحب العمل تاركاً هذا لظروف الناس ولطبيعة الحياة في كل زمن وفي كل أمة. ولكن قد يتحول المال في يد أصحابه إلى قوة باطشة مستبدة تتحكم في مصير المجتمع وتفرض سلطانها عليه، وإذ يصير الأمر إلى هذا الحد تدخل الشريعة الإسلامية لتضع حداً لهذا العدوان ولتبسط حمايتها على المجتمع وتقيم بين الناس موازين الحق والعدل، ولعل أول ظاهرة لتسلط المال على حقوق الناس واغتيالها هي ظاهرة الربا التي كانت عند مجيء الإسلام متفشية بين الناس وقائمة على أبشع صورة من صور الاستغلال. وكان طبيعياً أن يتدخل الإسلام في هذا الوضع الجائر من المعاملات وأن يفضح هذا الاستغلال الذي يقطع صلات المودة والرحمة بين الناس، فجاء القرآن بالحكم القاطع في تحريم الربا. وجدير بالذكر أن الربا الذي جاء القرآن الكريم بتحريمه هو ربا النسيئة، ثم جاءت السنة المطهرة فحرمت الذرائع المفضية إليه حتى لا يتخذ منها الناس مطايا تنقلهم بقصد أو بغير قصد إلى الربا الصريح.

نحو نظام مالي إسلامي

لقد تناولت الشريعة الإسلامية شؤون المال بأفضل توجيه لإصلاح حال الفرد وانتظام حياة الجماعة. والإسلام إذ رسم الخطوط العامة لكسب المال من طرق مشروعة مستقيمة، فإنه رسم الخطوط العامة أيضاً لإنفاقه في سبل مشروعة مستقيمة، يؤدي فيها المال مطالب الحياة الطيبة الكريمة لأصحابه فيسعدهم ويسعد من حولهم. وليس إنفاق المال بالأمر الهين، وإن بدا لبعض الناس أن المشقة كلها في الحصول عليه والتعرف على وسائل كسبه وطرق تثميره. والحق أن عملية إنفاق المال لا تقل عند العقلاء مشقةً واحتياجاً إلى الحكمة والعقل عن القدر الذي يبذله الإنسان في الحصول عليه وفي تثميره.

والمبادئ العامة التي وضعها الإسلام لأصحاب الأموال هي:

1- تطهيرها بالزكاة، وهذا حق الله، وحق العباد الذين جعل الله حصيلة هذه الزكاة للإنفاق عليهم منها.

2- الإنفاق على الأهل والولد، وذوي القربى، بقدر ما يسمح به المال، وفي الحدود التي أباحها الشارع الحكيم، مع التزام الاعتدال، دون ما إسراف ولا تقتير.

3- الصدقة الموصولة على أصحاب الحاجات من الفقراء والمساكين. ويقصد بالصدقة هنا ما يتطوع به الإنسان من معروف، وذلك غير الصدقة الواجبة وهي الزكاة.

4- توجيه الفائض بعد أداء هذه الحقوق فيما ينفع الصالح العام. فمن حق المال الفائض أن يستثمره صاحبه أو يقرضه لمن يستثمره في ميادين الصناعة أو التجارة أو الزراعة، وألا يمسك به في ظلمات الاكتناز. فالمال قوة يجب أن تعمل عملها في الحياة وألا تعطل، وفي هذا- فوق أنه نفع عظيم لصاحبه- عمران في الحياة وازدهار للمجتمع ونماء لثروة الأمة ومضاعفة لقوتها.

وهكذا كان تقدير الشريعة ونظرها الحكيم فيما شرعت من تنظيم مالي ليستقيم به ميزان الحياة بين الأغنياء والفقراء، وهو تشريع لو استقام عليه الناس لانحلت كثير من المشكلات التي تعانيها الإنسانية- حتى في أرقى الأمم وأكثرها أموالاً- من الفقر والتعطل، فإن الحصيلة التي تجيء إلى بيت مال المسلمين من الزكاة والصدقات وفائض الأموال لكفيلة بأن تسد مفاقر الفقراء وتقيل عثرات العاثرين، وبهذا تحتفظ الدولة بكيانها قوياً يعيش فيه مجتمع متكافل متماسك.

ونحن لو أمعنا النظر فيما حوته الشريعة الإسلامية من تنظيمات مالية، لأدركنا مبلغ ما أحرزته السياسة المالية في المجتمع الإسلامي من تقدم وارتقاء. فالتشريع الإسلامي فرض عدة ضرائب منها الضرائب على الدخل (كزكاة الزروع والثمار) والضرائب على رأس المال (كزكاة الأنعام والذهب والفضة) والضرائب غير المباشرة (كالضرائب الجمركية ممثلة في عشور التجارة)، وبذلك يكون الإسلام قد وضع نظاماً ضريبياً متكاملاً يقارب في كثير من النواحي الأنظمة المالية الحديثة. كذلك توخى التشريع المالي الإسلامي في فرائض المال أن تقوم على مبادئ العدالة والملائمة واليقين والاقتصاد، وهي نفس المبادئ التي نادى بها آدم سميث من بعد في دستوره الضريبي. هذا وإن دعوة الإسلام إلى عدم الاكتناز وضرورة تثمير فائض الأموال فيما ينمي ثروة المجتمع ويكفل له الاستقرار ويشيع العدالة الاجتماعية بين جنباته هي نفس الدعوة التي أخذ كينز يرددها من بعد في نظريته العامة.

وهكذا فإن الدعوة إلى نظام مالي إسلامي متحرر من تبعية الغرب إن هي إلا دعوة إلى تصحيح أوضاع والى استرجاع مجد وإلى نصرة عقيدة. فإن المجتمع الإسلامي مجتمع إنساني تعاوني ينهاه دينه عن الربا والمعاملات المشوبة بشوائب الربا، مجتمع لا يعبد المال وإنما يستعبد هو المال، مجتمع متكامل تظله روحانية شريعته التي غايتها هي تزكية النفوس وتطهيرها وربط الناس بعضهم ببعض بروابط المحبة والرحمة.

ومما لا شك فيه أن قيام النظم المالية الحديثة للدول الإسلامية لا يمنع البتة من أن يقوم إلى جانبها (بيت المال) الذي عرف في الإسلام. وأن يجد المسلمون في هذا البيت ما كان له من آثار في مجتمعهم الأول. وإذا كانت موارد هذا البيت قد انقطعت في الأزمنة الحديثة فإن فيها جانباً حياً لا يموت أبداً، وهو الزكاة التي يمكن أن يمتلئ منها بيت المال لو حاسب المسلمون أنفسهم عليها فتعود إليهم أمجادهم الأولى.

وقد يعتقد بعض المسلمين أن ما يؤدونه من ضرائب على دخل الثروة العقارية والمنقولة إنما تحل محل الزكاة التي فرضها الإسلام. ولكن هذا اعتقاد خاطئ- فالزكاة مصرفها: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل.

إنها حق الفقراء الذي أوجبه الله على الأغنياء. أما الضرائب التي تؤدي في المجتمعات الحديثة فإنها تؤدى لصيانة الأمن والدفاع وإقامة مرافق التعليم والصحة وإنشاء الطرق وغير ذلك مما ترعاه الدولة وتفرض له ضرائب تزيد وتنقص حسب حاجتها ووفق ما تمليه عليها الأوضاع والظروف السائدة. إن المجتمع الإسلامي يؤدي هذه الضرائب كما تؤديها المجتمعات غير الإسلامية، وتبقى الزكاة بعد هذا شريعة من شرائع الإسلام لرعاية جانب الفقراء والمساكين ومن إليهم، وبهذا يظهر التكافل الاجتماعي وتتضح إنسانية هذا الدين وفلسفته العميقة القائمة على وصل طبقات المجتمع بعضها ببعض بصلات الرحمة والمودة. ويمكن التوصل إلى ذلك بتنظيم خاص في المجتمع الإسلامي يخضع له جميع أصحاب الأموال الفائضة عن الحاجة والتي يحول عليها الحول.

وإنه لمن اليسير الآن ضبط هذا المصرف وحصره في زكاة النقود بعد أن أصبح المال كله مقوماً بالنقد. وسنرى حينئذ أموالاً وفيرة تدفع فقر الفقراء وحاجة المحتاجين وتتكفل بوضعهم الموضع الذي يضمن لهم الحياة الإنسانية الكريمة. وليست الزكاة بالأمر الشاق على النفس، الجائر على المال، إذا ما علم المسلم أن في هذا تزكية لنفسه وتطهيراً لها وتنمية لماله، وإذا ما أدرك أن في هذا رداً لاعتباره ونصرة لدينه ومجتمعه([1]).

الصفحات