كتاب " مبادئ التنشئة الاجتماعية السياسية " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب مبادئ التنشئة الاجتماعية السياسية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
2. تعريف التنشئة الاجتماعية حسب أبعادها: هناك اتجاه آخر ينحو إلى تعريف التنشئة حسب أبعادها([31]). وطبقا لهذا الاتجاه فأن للتنشئة أبعاداً (بيولوجية)، واجتماعية، ونفسية، ونفسية اجتماعية، و(انثروبولوجية).
1- التعريف الحياتي (البيولوجي) للتنشئة الاجتماعية: يُعرف أصحاب التعريف الحياتي (البيولوجي) التنشئة الاجتماعية على: "أنها عملية من أهم العمليات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع، والتي بها يتحول الطفل من كائن حي (بيولوجي) تتحكم فيه الغرائز إلى كائن اجتماعي يستطيع التفاعل مع أفراد المجتمع الذي ولد فيه، فالتنشئة وفقا لهؤلاء تعمل على "تحويل الوليد البشري من كائن (حي) يستجيب لكل نوازعه (الحياتية من غرائز ودوافع) دون ضابط أو رابط إلى كائن اجتماعي يتحكم في هذه النوازع، ويشبعها بطريقة ترضي المجتمع وقيمه؛ وبذلك يكتسب الفرد في أثناء هذه العملية السلوك الاجتماعي والقيم والعادات الاجتماعية والثقافية والدينية"([32]).
2- التعريف الاجتماعي للتنشئة الاجتماعية: أما أصحاب البعد الاجتماعي فيعرفون التنشئة على أنها: "العملية التي تتعلق بتعليم أفراد المجتمع من الجيل الجديد، كيف يسلكون في المواقف الاجتماعية المختلفة على أساس ما يتوقعه منهم المجتمع الذي ينشئون فيه، وتحديد هذا المجتمع ضمن الإطار العام له. ويكون دور الأفراد هنا تعلم النمط الثقافي لمجتمعهم بهدف تكوين شخصيتهم المناسبة للجماعة وثقافتهم وسلوكها المرغوب([33]). كما يعرفها هؤلاء على أنها: العملية التي يتعلم بواسطتها الطفل أساليب الحياة في تجمع اجتماعي معين، ويصير مشاركاً فعالا في ذلك التجمع ويلم الفرد بالقيم والاتجاهات والأعراف، وغير ذلك من الصفات التي تتميز بها ثقافته، وبمضي الوقت يصبح كائنا اجتماعيا([34]). وبناءً على ما تقدم يمكن القول أن المحتوى الاجتماعي للتنشئة ينصرف إلى كونه: "عملية تفاعل بين الفرد والمجتمع داخل الوسط الاجتماعي، (وهي) السبب في اكتساب الثقافة الاجتماعية، وتعليم السلوك والقيم، وصقل شخصية الفرد"([35])، وعلى أنه: "العملية التي يتم بها انتقال الثقافة من جيل إلى جيل، والطريقة التي يتم بها تكوين الأفراد منذ طفولتهم حتى يمكنهم العيش في مجتمع ذا ثقافة معينة، ويدخل في ذلك ما يلقنه الآباء والمدرسة والمجتمع للإفراد من لغة ودين وتقاليد وقيم ومعلومات ومهارات..."([36])، وعلى أنه أيضا: "عملية يتم بواسطتها اكتساب الأفراد كل من نسق المعتقدات والقيم والمعايير والاتجاهات التي توجد في المجتمع". فضلا عن ما تقدم فأن هذا المحتوى يشير أيضا إلى أنه: "الوسيلة التي عن طريقها يتم التوافق الجمعي، وتهدف إلى جعل أعضائها يقبلون كل من المعايير والطرائق أو القيم والأدوار الاجتماعية؛ وذلك حتى يكتسب كل من الأعضاء شخصيته الأساسية([37]). وأخيرا فأنه يشير كذلك إلى كونه: "أهم العمليات التي يتعلم بفضلها الفرد طرق المجتمع أو جماعة اجتماعية فيكتسب المعارف والنماذج والقيم والرموز ليصبح عضوا قادرا على المشاركة في أنشطة المجتمع المختلفة"([38]).
3- التعريفيين النفسي والنفسي الاجتماعي: وحسب البعد النفسي والنفسي الاجتماعي تعرف التنشئة على أنها: "عملية تعلم وتعليم وتربية تقوم على التفاعل الاجتماعي، وتهدف إلى اكتساب الفرد سلوكاً ومعايير واتجاهات مناسبة لإدوار اجتماعية معينة تيسًر له الاندماج في الحياة الاجتماعية"([39]). كما يعرفوها على أنها: تنشئة الإنسان منذ ولادته لأن يكون كائناً اجتماعياً وعضواً في مجتمع معين. كما وتشير التنشئة الاجتماعية عند هؤلاء إلى: "العمليات النفسية والاجتماعية التي تكتنف عملية التنشئة الاجتماعية، أي عملية مران الفرد على السلوك الاجتماعي وتمرّنه على ذلك السلوك"([40]). أي أنها: "أهم العمليات التي يستطيع بها الوليد البشري المزود بإمكانيات سلوكية فطرية ان يتطًور وينمو نفسياً واجتماعياً، بحيث يصبح في النهاية شخصية اجتماعية تعمل وفقاً لأحكام جماعتها ومعايير ثقافتها"([41]).
4- التعريف الانثروبولوجي: ويُعرف المتخصصون في دراسة علم الإنسان (Anthropologists) التنشئة انطلاقا من اعتبار الإنسان مخلوق عضوي سلوكي ثقافي. فيرون بأن التنشئة هي: تربية الفرد وتوجيهه، والإشراف على سلوكه، وتلقينه لغة الجماعة التي ينتمي إليها، وتعويده على الأخذ بعاداتهم وتقاليدهم، ونظام حياتهم، والاستجابة للمؤثرات الخاصة بهم والرضا بأحكامهم، والسير ضمن الإطار الذي يرضونه للوصول إلى الأهداف التي يؤمنون بها، بحيث يصبح جزءا منهم وغير بعيد عنهم يفكر مثلهم، ويشعر بشعورهم، ويحس بما يحسون به ويصبح واحدا منهم([42]).
يتضح من كل ما تقدم بأن الاتجاه الثاني ينطلق في تعريفه للتنشئة الاجتماعية بالاستناد إلى أبعادها الحياتية، والاجتماعية، والنفسية، والنفسية والاجتماعية وأخيرا الانثروبولوجية. يُركز التعريف الحياتي على أن: التنشئة تقوم بتحويل الجانب الحيواني في الإنسان إلى جانب اجتماعي، أما التعريف الاجتماعي فأنه يُركز في دور هيئات التنشئة الاجتماعية السياسية كالأسرة والمدرسة في تحويل هذا الكائن الحيواني إلى كائن بشري. ويُشدد التعريف النفسي على استعدادات الفرد الفطرية في اكتساب عملية التنشئة الاجتماعية السياسية أما التعريف النفسي الاجتماعي فأنه يأخذ بالتعريفين الاجتماعي والنفسي معا. وأخيرا فأن أصحاب التعريف الانثروبولوجي يركزون في أكثر من جانب بحيث يُعرفون التنشئة الاجتماعية السياسية انطلاقا من اعتبار دور الجوانب الحياتية والسلوكية والثقافية مشتركة معا في تنشئة الفرد.
3. تعريف التنشئة الاجتماعية حسب شمولها: يذهب بعض المتخصصين إلى القول بان التعريفات المختلفة للتنشئة الاجتماعية يمكن أن تصاغ بطريقتين: طريقة تتسم بالتوسع والشمول في النظرة، وطريقة أخرى تتسم بالتركيز والتحديد. فمن جهة يرون أنه يمكن النظر إلى التنشئة الاجتماعية: كعملية اجتماعية مستمرة وشاملة تستهدف بناء الشخصية، ونقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل. ومن جهة أخرى، يرون أنه يمكن النظر إلى عملية التنشئة الاجتماعية إذ تقتصر على ذلك الجانب منها الذي يتم داخل الأسرة، حيث يكتسب الفرد شخصيته الاجتماعية ويتحوّل إلى كائن اجتماعي([43]). يمكن القول أن أصحاب هذا الاتجاه يرون أن للتنشئة نطاق واسع يشمل كل المجتمع، ونطاق ضيق يشمل الأسرة وتحويل الفرد إلى كائن اجتماعي، وفي الحقيقة لا يمكن الفصل بين الاثنين. أي التنشئة يمكن أن تشمل المفهومين معاً؛ لأن الأسرة تؤثر في المجتمع كما أن الأخير يؤثر فيها.
ما يمكن أن يخلص إليه هو: أن المحاولات الثلاث لتعريف التنشئة الاجتماعية ينطلق كل واحد منها من آراء أو مدرسة خاصة في محاولته لتعريف التنشئة الاجتماعية، وأن كل واحد منها أسهم في تعريف جانب معين، ومهم من مفهوم التنشئة الاجتماعية بشكل يؤدي في النهاية إلى أعطاء صورة تامة عن مفهوم التنشئة الاجتماعية، ويمكن القول مما تقدم أيضا أن عملية التنشئة الاجتماعية: هي العملية المستمرة التي يكتسب بفضلها الفرد المعايير والقيم والممارسات والثقافة بواسطة هيئات متعددة فضلاً عن استعداده الفطري، وبوسائل مختلفة، بشكل تساعده على أتباع سلوك يتكيف مع حاجات المجتمع، وتُعين الأخير بالنتيجة على الاستمرار والاستقرار الاجتماعي.
ثانيا: سمات التنشئة الاجتماعية وعلاقتها بالتنشئة الاجتماعية السياسية
تتسم التنشئة الاجتماعية بجملة سمات ومعالم معينة لعل أهمها هو: إن سلوك الفرد يرتبط تدريجيا بالمعاني التي تتكون لديه في المواقف التي يتفاعل فيها. إن هذه المعاني تتحدد بالخبرات السابقة التي مر بها الفرد وعلاقة تلك الخبرات بالمواقف الحالية وإن الطفل يولد في جماعة حددت فعلا معاني معظم المواقف العامة التي تواجهه، وكونت لنفسها قواعد مناسبة للسلوك فيها وإن الطفل يتأثر بهذه المعاني منذ ولادته، وتنمو شخصيته في مراحلها الأولى طبقاً لهذه المعاني([44]),
وبعد أن تم التعرف إلى ما هي التنشئة الاجتماعية وسماتها، يبقى السؤال ما هي العلاقة التي تربط التنشئة الاجتماعية السياسية بالتنشئة الاجتماعية؟ وفي معرض الإجابة عن السؤال هذا فأن التنشئة الاجتماعية، كما مره ذكره، تشير إلى كونها عملية نمو وتطور عامة تشمل جميع جوانب شخصية المتعلم. أما الجانب المتعلق بنمو وتطور شخصية الناشئ السياسية([45]), أي الجانب الذي بفضله يستطيع الناشئ ان يطور ويُنميّ مجموعة من المعلومات, والقيم والاتجاهات التي ترتبط بالنسق السياسي لمجتمعه، فهو الجانب الذي يمكن أن يطلق عليه التنشئة الاجتماعية السياسية([46]). ويقول في هذا الاتجاه أحمد جمال ظاهر: "وحيث إننا ننظر إلى عملية التنشئة الاجتماعية، وما لها من دور في بناء الأمة فسوف ننتقل من بناء شخصية الفرد إلى بناء الأمة التي تقوم على بناء المواطن, وهنا يجد الباحث التقاء الاجتماع بالسياسة، فإذا كان مفهوم التنشئة متعلق بالعلوم الاجتماعية؛ فإن بناء الأمة يتعلق بالمفهوم السياسي. ويمكن أن نضيف على ذلك أن التقاء المفهومين معا التقاء ذو علاقة لا انفصام إذ يؤثر ويتأثر كل منهما في الآخر"([47]), وفي الاتجاه نفسه يقول عبد الله محمد عبد الرحمن: "... إلا أننا نلاحظ أن مفهوم التنشئة الاجتماعية السياسية يُعدّ أكثر تحديدا ولاسيما أنه يرتبط بعملية أو مظهر واحد من مظاهر التنشئة الاجتماعية، إلا وهو الجانب السياسي الذي يُعدّ جزءاً من الحياة الاجتماعية العامة, والتي ينبغي اكتسابها بواسطة أعضاء المجتمع، وخاصة أن العملية السياسية تُعدّ من العمليات التي يتم اكتسابها في الحياة اليومية, وعن طريق التنشئة الاجتماعية السياسية"([48]).
خلاصة القول فأن التنشئة الاجتماعية يمكن أن تعرف أيضا على أنها، من جانب: العملية التي يكتسب الفرد بواسطتها النمو الحياتي والعواطف والمشاعر والمعارف والمعايير والمعتقدات والقيم والمواقف والأحكام والثقافة التي تؤثر في سلوكه الاجتماعي، وهي من جانب آخر: عملية تنشئة الفرد جسميا أو عضويا ونفسيا واجتماعيا وثقافيا أما التنشئة الاجتماعية السياسية فسيتم تعريفها في المطلب القادم.