يشدد الشاعر الفلسطيني زكريا محمد في كتابه "ذات النحيين..
أنت هنا
قراءة كتاب ذات النحيين الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
ذات النحيين الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة
الصفحة رقم: 10
صلة دينية
والآن، هل هناك من صلة دينية لمطاعيم الريح، أي لشريبي الخمر هؤلاء؟
هذا احتمال كبير، في ما نرى. فوجود الخمر والإدمان عليها يذكرنا بارتباط الخمر بالنغمة الصيفية الفيضية العالية. فهذه النغمة مرتبطة بالصنم (مجاور الريح)، الذي افترضنا أنه (مجاوز الريح)، بالزاي لا بالراء، بمعنى: ساقي الخمر، كما عرفنا من كتابنا السابق (عبادة إيزيس وأوزيريس). أي يذكرنا بأننا نتحدث عن شأن ديني، يتعلق بالانقلابات الفصلية.
وثم مقاطع من سيرة أبي محجن، وخاصة تلك التي على علاقة بالقادسية، توحي بصلة دينية، فهي ترفع هذا الرجل إلى درجة ميثولوجية. ولنأخذ هذا المقطع كنموذج: (فتعجب الناس منه، وقالوا: من هذا الفارس الذي لم نره في يومنا؟ فقال بعضهم: هو ممن قدم علينا من إخواننا من الشام من أصحاب هاشم بن عتبة المرقال، وقال بعضهم: إن كان الخضر يشهد الحرب فهذا هو الخضر قد منّ الله به علينا، وهو علم بنصرنا على عدونا. وقال قائل منهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحروب لقلنا إنه ملك) (المسعودي، المروج).
وهكذا، فهو يكاد يكون ملاكا، بل إنه يبدو وكأنه (الخضر) نفسه. أي أنه يتم تشبيه محارب شجاع، لكنه سكير مدمن، بالخضر المقدس ذاته. إنه لأمر غريب! لا، ليس غريبا. فقد رأينا في كتابنا السابق أن الخضر هو، في أغلب الظن، ممثل النغمة الكونية العالية الفياضة. وهذه النغمة خمرية دوما. عليه، فإن تشبيه أبي محجن بالخضر لا يبدو مصادفة.
وإذ وصلنا إلى هنا، فإن علينا في ما يبدو أن نعود على أبيات أبي محجن المدهشة في حب الخمر:
أذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
إذ يبدو لنا وكان هذا الأبيات تتحدث عن تقليد ديني مغرق في القدم. أي أن الرغبة بالدفن قرب كرمة كي تتروى العظام بخمرتها ليست من إبداع خيال ملتهب لشاعر، بل هي مجرد صياغة تقليد ديني في أبيات شعرية منظومة. ودليلنا على ما نقول هو قصة احتكام أولاد نزار الأربعة إلى الأفعى الجرهمي كاهن نجران. فقد قدم لهم هذا الكاهن طعاما وخمرة مدهشة: (دعا لهم بطعام فأكلوا وشربوا، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً أجود لولا أنها نبت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه ربي بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي ينتمي إليه. وسمع الجرهمي الكلام فعجب، فأتى أمه وسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلاً من نفسها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة)(12). وهكذا، فقد كانت الخمرة فعلا قد غرست فوق قبر والد الأفعى الجرهمي. ووالد الأفعي يجب أن يكون أفعى. أي أن الكرمة قد غرست فوق قبر أفعى. وقد رأينا في كتابنا السابق (عبادة إيزيس وأوزيريس...) أن النغمة المضادة للنغمة الخمرية، أي النغمة القمحية، تكون مرتبطة بأفعى، وعلى علاقة بالصنم (مطعم الطير) في حين ان النغمة الخمرية تكون مرتبطة بطائر. وهكذا فالكرمة مثل الطائر في الأعلى، في حين أن الأفعى تحتها. وعروقها تأكل من عظام الأفعى، التي تطعم الطائر- الكرمة في هذه الحال. ونص الأفعى الجرهمي نص مدهش، ويحتاج إلى نقاش خاص ليس هنا محله.
فوق هذا، فاسم أبي محجن ذاته يثير التساؤلات. فالمحجن هو الصولجان. وقد تعرضنا في كتابنا السابق لشخصية ميثولوجية وردت في أحاديث منسوبة للنبي تدعى (صاحب المحجن)، وتوصلنا إلى أنها شخصية أوزيريسية.
وهكذا، فإن هناك إشارات معقولة إلى أننا مع أبي محجن أمام شخصية ميثولوجية، أو شخصية واقعية ملوثة جدا بتراث شخصية ميثولوجية. أي أننا قد لا نكون أمام سكير عادي، بل أمام سكير ميثولوجي مثل المكاء والضيزن- الساطيرون صاحب النضيرة، الذي: (لا يبيت إلا سكران)(13).
وإذا كان أبو محجن وعمه شخصيتان ميثولوجيتان مرتبطتان بالخمر، أو شخصيتان على علاقة بكهانة ما لإله خمري، فلا بد أن نفترض أن اسم الإله الموجود في اسم عمه (عبد ياليل) إله خمري صيفي، يمثل النغمة الكونية العالية.