أنت هنا

قراءة كتاب العلمانية والحداثة والعولمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العلمانية والحداثة والعولمة

العلمانية والحداثة والعولمة

كتاب " العلمانية والحداثة والعولمة " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

س: وماذا عن "العقلانية المادية" كما تسميها؟

ج: حين بدأت في تحليل الخطاب الفلسفي الغربي اكتشفت أن العقلانية الغربية ليست شيئاً مطلقاً، وإنما يختفي وراءها نموذج مادي يساوي بين الإنسان والطبيعة، ومن ثم يساوي بين العقل الإنساني والطبيعة المادية، ويجعل هذا العقل يذعن للطبيعة في نهاية الأمر إلى أن تصبح مهمته الوحيدة أن يرصد الطبيعة ويعرف مسارها وقوانينها ليطبقها على الإنسان، ومن هنا سميتها العقلانية المادية (التي تسمى عادة الاستنارة) التي عبرت عن نفسها في مقدرة العقل (المادي) على التجريب، ثم انفصلت النزعة التجريبية عن العقل، وأصبح العقل يلهث وراء التجريب المنفصل عن القيمة الإنسانية والأخلاقية، يتلقف نتائجه دون تساؤل عن المعنى والغاية.

وأعتقد أن هيمنة العقل المادي في الغرب هي المسؤولة عن الكره العميق الذي يشعر به كثيرون تجاه العرب، وعن عدم فهم قضية حق العودة للفلسطينيين وأهمية القدس. فاللاجئون الفلسطينيون يعيشون في وضع مادي مزرٍ، ومع هذا يرفض غالبيتهم التعويضات السخية التي يمكن أن تدفع لهم، وهم ما يزالون يتذكرون بيوتهم في حيفا ويافا ويحتفظون بمفاتيحها، وهم مستمرون في مقاومة العدو عبر ما يزيد عن مئة عام. وعلاوة على كل هذا يصرون على أن مدينة القدس هي عاصمة دولتهم (برغم أن كلنتون -كما يقال- عرض على السلطة الفلسطينية 30 بليون دولار). كل هذا، من منظور العقلانية المادية، يبدو أمراً متخلفاً لا عقلانياً يثير الغيظ والحنق، إذ كيف يمكن لهؤلاء الفقراء أن يتمسكوا بتراثهم ومقدساتهم على رغم كل الإغراءات المادية؟ ما الذي يجري في عقولهم؟

س: هل هناك لا عقلانية مادية؟

ج: نعم: من ثمرات هذا العقل المادي ما يسمى "الترشيد"، والذي ثبت أنه محاولة توظيف الوسائل بأحسن السبل في خدمة الغايات، أي غايات عقلانية كانت أم غير عقلانية. وهذا يعني أن يتعلم الإنسان كيف يبني جسراً أو طريقاً، ولا يهم إلى أين سيؤديان: إلى الجنة أم إلى الجحيم؟ المهم هو طريقة بناء الجسر، مما يؤدي إلى عقلانية الوسائل (كيف تقتل؟) لاعقلانية الغايات (لمَ تقتل؟). هذا يعني في واقع الأمر أن الرؤية العنصرية المادية يمكن أن توظف خير الوسائل العلمية والتقنية (العقلانية!) في خدمة اللاعقل، رؤية قد تكون "واقعية" بالمعنى المادي، ولكنها لا تخضع بأية حال لأي منطق عقلي إنساني. ولذا نجد أن ثمة تعايشاً كاملاً بين اللاعقلانية والعلم والتقنية. ألم يفعل ذلك المجتمعان النازي والصهيوني، فقد استخدما العلم والتقنية بكفاءة غير عادية، وهما يستندان في الوقت ذاته إلى رؤية داروينية لا عقلانية مادية. لا تؤمن سوى بالقوة وترفض الاحتكام إلى أي قيم عقلانية إنسانية توجد خارجها.

س: ولكن هذان النموذجان ينظر إليهما على أنهما من تجليات العقلانية؟

ج: نعم ثمة من يرى أن الإبادة النازية للملايين (من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعاقين ومن المسنين) ممن صنفوا باعتبارهم "أفواهاً مستهلكة غير منتجةٍ useless eaters" إنما هو أحد إنجازات العقلانية المادية، التي "حررت" الإنسان من أية أعباء أخلاقية مثالية غير مادية، وتعاملت مع البشر بـ "كفاءة" بالغة وبمادية صارمة، كما لو كانوا مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة/المادة، فمن يحيد عنها (مثل الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والرجال المسنين) لابد من التخلص منه في أسرع وقت وبأكثر الطرق كفاءة! أي إن العقل المادي هنا قام بتفكيك البشر بصرامة بالغة وكفاءة مدهشة، ونظر إلى الجميع بعيون زجاجية وكأنه حاسوب متأله، في غاية الذكاء، لا قلب له ولا روح! فالعقل المادي قام بتفكيك الإنسان ووظف آخر صيحات العلم والتقنية وبكفاءة غير عادية، في خدمة رؤية عنصرية متخلفة داروينية مادية غير أخلاقية، غير عقلانية. فهذه لا عقلانية مادية، إذ لا يمكن أن توصف مثل هذه الأفعال بأنها عقلانية.

ويمكننا القول: إن ثمة نمطاً من الحكام الإرهابيين الثوريين لا يختلفون كثيراً عن هتلر يدورون في إطار العقلانية المادية التي تتحول إلى لا عقلانية مادية! مثل روبسبيير، الذي حكّم العقل (المادي بطبيعة الحال)، فقام بتفكيك البشر في إطار "مصلحة الشعب" (كما رآها هو بطبيعة الحال) فأباد الملايين من أعداء الثورة "غير النافعين" بطريقة كفء منظمة. وهذا لا يختلف كثيراً عن ستالين، الذي قام بتفكيكهم في إطار علاقات الإنتاج ومعدلات النمو، فأباد ملايين الفلاحين (الكولاك) الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج المادية الحتمية بنفس الكفاءة والتنظيم. ويرى بعض مؤرخي الثورات التي تدور في إطار النماذج العقلانية المادية أن ظهور مثل هذا "الحاسوب المتألِّه" مسألة حتمية، وأنه قد يأخذ -بعد استقرار الثورة وتحولها إلى مؤسسات - شكل لجان خبراء ومستشارين! بل ويرون أن هذه ظاهرة حتمية لصيقة بالمجتمعات الحديثة، التي تُعرِّف النمو والتقدم والإنسان من منظور عقلاني مادي، وأن التكنوقراطية ونظريات التلاقي (بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي) ووحدة العلوم والاتجاه نحو التنميط أو الكوكبة والعولمة، إنما هي كلها تعبير عن هذا الاتجاه.

ودائماً ما أُحذِّر من تصور أن الغرب "عقلاني" وأننا يمكننا مقارعة الحجة بالحجة ونقنعه بعدالة قضيتنا وخلل نموذجه وسلوكه الإمبريالي. الغرب ليس مسيحياً ولا إنسانياً (هيومانياً) فهو من جراء هيمنة النموذج المادي عليه لا يدرك العالم إلا من خلال حواسه الخمس، أي إن الغرب وثني، ولابد أن تأتيه شواهد مادية وليس مقولات عقلية. فمثلاً كان من المستحيل إقناع الولايات المتحدة بأن غزو العراق سيضر بمصالحها وسيفجّر مشاكل كثيرة؛ لأن لوبي مصانع السلاح وشركات البترول كان يضغط على النخبة الحاكمة ويزين لها الأمر مبيناً المكاسب المادية التي ستصب في خزانات هذه الاحتكارات. ولذا كان لابد أن تتصاعد المقاومة وتتزايد تكاليف الحرب وتصل جثامين الجنود حتى يبدأ الشعب الأمريكي يدرك أبعاد القضية وحتى تبدأ النخبة الحاكمة في إجراء حسابات المكسب والخسارة، فتظهر قطاعات منها تطالب بالانسحاب من العراق. كل هذا يعني أن النموذج المادي يؤدي إلى اللاعقلانية المادية.

س: تتردد كلمة "الترشيد" في خطابك التحليلي وهي كلمة لها رنين إيجابي في العقل الإنساني، ولكنك على العكس من ذلك تجد أن لها مضموناً سلبياً؟

ج: هذه قضية في غاية الأهمية وتحتاج للتوضيح، أي مصطلح يخفي مفاهيم، ومهمة الباحث أن يبين هذه المفاهيم ويحاول تعريف المصطلح في ضوء المفهوم الكامن، وهذا ما فعلته مع كلمة "الموضوعية" فبعد أن عرفت "الموضوعية" كما ترد في الخطاب العربي، بينت أنها في واقع الأمر "موضوعية متلقية" وطرحت مفهوم "الموضوعية الاجتهادية". والشيء نفسه ينطبق على كلمة "ترشيد"، فالترشيد كآلية هو ببساطة إعادة صياغة الواقع وتنظيمه وإدارته بطريقة تضمن تعظيم الإنتاج وتحقيق أحسن النتائج من خلال أنجع الوسائل، وتوظيف المدخلات بطريقة تضمن تقليل العادم وتعظيم المردود، ويتم هذا من خلال عملية تخطيط مركبة وحسابات دقيقة. هذه هي إجراءات الترشيد بشكل عام، ولكن مع هذا ثمة أشكال مختلفة من الترشيد يمكن تصنيفها على أساس الهدف منها. فهناك الترشيد المضموني أي الذي له مضمون وهدف، وهو يعادل الترشيد التقليدي الذي يعني ألا يتعامل المرء مع الواقع بشكل ارتجالي وجزئي، وإنما يتعامل معه بشكل منهجي متكامل ومتسق مع مجموعة من القيم الأخلاقية المطلقة والتصورات المرجعية المسبقة التي يؤمن بها. فحينما قام المصريون القدماء ببناء الهرم الأكبر، على سبيل المثال، فإنهم أنجزوا هذا العمل المعماري الضخم من خلال عملية ترشيد ضخمة للعمالة ورسم خطط لنقل الحجارة، وتوفير الطعام لآلاف العمال. وكان الهدف من بناء هذا الهرم واضحاً للحكام والمحكومين، وهو بناء صرح لتقديس الفرعون الذي كان رمزاً للإله ولمصر. وحينما قام المسلمون بالفتوحات الإسلامية فقد حققوا انتصاراتهم من خلال عملية تخطيط مركبة، واستخدموا كثيراً من الإجراءات الترشيدية، حتى يمكن تنظيم قواتهم وتزويدها بالمؤن وتحريكها في أرض المعركة، وكان الهدف واضحاً تماماً للجميع، وهو نشر الرسالة الإسلامية في العالم.

ولكن ظهر نوع جديد من الترشيد في العصر الحديث وهو "الترشيد الشكلي أو الإجرائي" أو "الترشيد الأداتي" أو "الترشيد المادي" وهو الترشيد المنفصل عن القيمة والذي يدور في الإطار المادي، والموجَّه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التي تروق له أو حسبما تمليه رغباته أو مصلحته. والترشيد المادي يتعلق بالكفاءة التقنية وتوفير أفضل الوسائل والتقنيات لتحقيق الأهداف (أية أهداف) بأقل تكلفة ممكنة وفي أقصر وقت ممكن، وكلما كانت الوسائل أكثر فعالية كان الفعل أكثر رشداً من الناحية الإجرائية أو المادية. فالترشيد التقليدي (المضموني) يتم في إطار المطلق الديني أو الأخلاقي أو الإنساني والمرجعية المتجاوزة، أما الترشيد الحديث (الشكلي) فهو متحرر من القيمة الدينية والأخلاقية والإنسانية منفصل عن الأهداف والمشاعر والغائيات الإنسانية خيِّرة كانت أم شريرة.

س: ولكن البعض يقول: إن عمليات الترشيد المادي هي مجرد آليات ليس لها أي أبعاد إيديولوجية؟

ج: هذا ادعاء إيديولوجي ليس له ما يسانده، فثمة منظومة إيديولوجية (معرفية وأخلاقية) كاملة تتم في إطارها أية عملية من عمليات الترشيد. وفي حالة الترشيد الذي يدَّعي التجرد من القيمة فإنه عادةً ما يفترض الطبيعة/المادة مرجعية نهائية له.

ويمكن القول بأن الترشيد المنفصل عن القيمة، والذي يدور في الإطار المادي، هو في واقع الأمر إعادة صياغة للمجتمع ككل عن طريق تفكيكه واستبعاد سائر العناصر المركبة التي تستعصي على القياس (العناصر الإنسانية أو الربانية)، وإعادة تركيبه على هدي المعايير العقلية المادية، إلى أن يتوافق الواقع الاجتماعي مع القوانين المادية، ويخضع للاختبارت والإجراءات الكمية وللقياس. ثم يتسم الشيء نفسه على مستوى الإنسان الفرد، باطنه وظاهره، ثم يتم ترشيده هو الآخر من الخارج ثم من الداخل في الإطار المادي، بحيث يمكن تفسير سلوك الإنسان في كليته من خلال نماذج مادية. والمفارقة الكبرى أن هذا الترشيد المادي يؤدي إلى ضمور الرشد الإنساني لأنه يتطلب الانصياع الكامل لنموذج خارجي، مادي، وفي نهاية الأمر غير إنساني، واستبعاد كل الاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية، وكل العناصر الكيفية والمركبة والنافعة والمحفوفة بالأسرار، بشكل تدريجي ومتصاعد، حتى تهيمن الواحدية المادية، ويتحول الواقع إلى مادة استعمالية، ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد.

إن الترشيد الإجرائي يفترض عالماً مادياً تماماً، الإنسان فيه مادة سلبية تكاد تكون ميتة، مفعولاً به وليس فاعلاً، ولذا فنحن نسمي هذا النوع من الترشيد "تدجيناً"، ونظراً لأن الترشيد ليس له أية غائيات إنسانية فإن الإنسان يدرك بالتدريج أنه أصبح مجرد وسيلة بعد أن كان غاية، وأن عقله عقل أداتي إجرائي، عالم تكون فيه قوانين اللعبة أو أخلاقيات الصيرورة أكثر أهمية من نوع اللعبة أو الهدف منها.

الصفحات