كتاب " العلمانية والحداثة والعولمة " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب العلمانية والحداثة والعولمة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
س: هل تريد أن تربط بين الترشيد الإجرائي أو المنفصل عن القيمة والحداثة الغربية المنفصلة عن القيمة؟
ج: نعم، فقد بدأت عملية ترشيد المجتمعات الغربية في عصر النهضة مع مولد منظومة الحداثة، وكانت معدلات الترشيد في بداية الأمر بطيئة متعثرة، ولكن أصبح الإنسان الغربي في القرن التاسع عشر واعياً بأهمية الترشيد، فاندفعت الحضارة الغربية قدماً للأمام بخُطا حثيثة لترشيد المجتمعات الغربية، ثم تزايدت معدلات الترشيد إلى أن تم ترشيد معظم مجالات الحياة: الإذاعة - التلفاز - تخطيط المدن- المعمار...إلخ، إن استمعتِ إلى نشرة الأخبار في التلفاز فستلاحظين أن أمام المذيع مثلاً خمس عشرة دقيقة ليغطي أخبار العالم: أوربة- الولايات المتحدة- الشرق الأوسط- أخبار الرياضة- أخبار النجوم- الأخبار الاقتصادية- بعض الطرائف والفضائح. وكي يستخدم المذيع 15 دقيقة على أكمل وجه، وبشكل يقال له رشيد، يجب ألا يزيد الوقت الذي يستغرقه كل خبر على كذا بايت bite، والبايت bite تستغرق كذا ثانية، ويتم تدريب المذيعين على الحديث بسرعة حتى يمكنهم تغطية كل الأخبار في الحيز الزمني المسموح به، كما يتم تدريب الفنيين على كيفية عرض الأفلام المصاحبة للنشرة بسرعة. والهدف من كل هذا ليس نقل الأخبار وإعطاء المستمع الفرصة ليميز بين الغث منها والثمين، والصادق منها والكاذب، وإنما الهدف هو توصيل الخبر بسرعة، حتى يمكن توظيف الحيز الزمني بطريقة يقال لها رشيدة! بل إن الأخبار ذاتها تحولت تدريجياً إلى نوع من أنواع التسلية يُقال له "infortainment" وهو مزيج من الأخبار "information" والتسلية "entertainment" التي يمكن تسميتها "أخباتسلية".
وتم ترشيد الحيز المكاني الذي يتحرك فيه البشر لضبط حركتهم وتوظيفها توظيفاً رشيداً، ولنقارن الطرق في المدن الحديثة بالطرق في المدن القديمة، الطرق في المدن القديمة دائماً ملتفة ومتعرجة، أما في المدن الحديثة فالطرق مستقيمة لا لفَّ فيها ولا دوران، وتحدد فيها سرعة السيارات، وتضبط حركتها من خلال إشارات المرور الضوئية. والشيء نفسه ينطبق على المنازل، فالمنازل في المدن القديمة تأخذ أشكالاً مختلفة تنبع من اعتبارات كثيرة بعضها غير رشيد إطلاقاً (بالمعنى المادي)، أما الآن فالمنزل يبنى في حيز حددته الدولة المركزية مسبقاً، وعادة ما يأخذ شكلاً هندسياً محدداً، كأن يكون مربعاً أو مستطيلاً، كما حددت الدولة المركزية شكل واجهته، فهي باعتبارها آلية الترشيد الكبرى، تتدخل في كل كبيرة وصغيرة.
إن الترشيد في المجتمع الغربي الحديث يدور في إطار مادي، فمنظومة الحداثة الغربية تصدر عن رؤية مادية، ترى أن ما يحرك العالم هو القوانين والدوافع والقيم المادية، وقد سموا هذه القوانين "القوانين الطبيعية"، وسموا المادة "الطبيعة"، ولذا فأنا أشير لها بأنها "الطبيعة/المادة". وانطلاقاً من هذه الرؤية المادية، لا تميز منظومة الحداثة الغربية بين الطبيعة/المادة والإنسان، فالإنسان إن هو إلا كائن طبيعي/مادي، تسري عليه القوانين الطبيعية/المادية نفسها التي تسري على الأسود والذئاب والفراشات واليرقات. في هذا الإطار حُدد الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة في إطار مادي. ومن هنا ظهر الإنسان الطبيعي/المادي، أي الإنسان الذي يدور في إطار النموذج الطبيعي/المادي: سماؤه هي السقف المادي، طموحه مادي، أحلامه مادية، أهدافه ودوافعه مادية. وبدلاً من إنسان مركب، متعدد الأبعاد، مفعم بالأسرار، مكون من جسد وروح، ظهر إنسان تحركه الدوافع الاقتصادية، فهو إنسان اقتصادي، أو يحركه مبدأ اللذة، فهو إنسان جسماني، ومهما اختلفت الدوافع، فهي تظل، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، مادية، يمكن ردها إلى الطبيعة/المادة، فهو إنسان طبيعي/مادي.
وهَمّ هذا الإنسان الطبيعي/المادي الأوحد هو تصعيد الاستهلاك، ولذا فعليه تسخير كل الموارد الطبيعية والبشرية التي حوله لصالحه، والترشيد في الإطار المادي لا يكتفي بطبيعة الحال باختزال الإنسان لدوافعه المادية، بل لابد من إعادة صياغة المجتمع ذاته وكل مجالات الحياة ووحدات المجتمع إلى القاسم المشترك المادي، ومن ثم يتم استبعاد كل ما هو مركب ومتجاوز لسطح المادة حتى يسهل إدارة المجتمع لتحقيق الأهداف المادية.
انظري إلى أي إعلان في التلفاز ستجدي أن الإنسان الذي يظهر فيه يتحرك في إطار المنفعة الاقتصادية واللذة الجنسية، إنسان بسيط غير مركب وكل ما حوله بسيط مختزل إلى البعد المادي: مصدر السعادة في حالة إعلانات السيارات هو اقتناء سيارة جديدة جميلة فارهة، سلعة قد تكون غير نافعة أو تتسم بصفات ليست بالضرورة نافعة، ولكنها ولا شك لذيذة، ومن هنا توجد بجوار السيارة دائماً فتاة شبه عارية تستخدم ساقيها اللذيذتين لتوجيه أنظارنا للمزايا اللذيذة غير النافعة للسيارة. أما معجون الحلاقة فهو له فعل السحر، فإن اشتريت هذه السلعة النافعة اللذيدة، فستجد عدداً هائلاً من البنات اللذيذات يسقطن صرعى جمالك. وأعترف أنني جربت هذه الوصفة السحرية، ولكن التجربة لم تحقق أياً من النتائج المرجوة منها ولو بنسبة ضئيلة! وهدف الإعلان اقتصادي نفعي، وهو بيع السلعة للإنسان الذي تحركه الدوافع الاقتصادية، ويتم ذلك من خلال مخاطبة غرائزه الجنسية التي يحركها مبدأ اللذة.
س: يمكن هنا الربط بين الترشيد و"الإنسان ذو البعد الواحد" وهي عبارة ترد كثيراً في خطابك، ما المقصود منها؟
ج: عبارة "الإنسان ذو البُعد الواحد" ترجمة للعبارة الإنجليزية "وان ديمنشينال مان one-dimensional man" وهي عبارة تَرد في كتابات هربرت ماركوز، أحد مفكري مدرسة فرانكفورت، وتعني "الإنسان البسيط غير المركب". والإنسان ذو البُعد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بُعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي والمادي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك. وتهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تُطبِّق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج كمية ورياضية، وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وتُرشِّده وتُنمِّطه وتُشيِّئه وتُوظِّفه لتحقيق الأهداف التي حددتها. ويذهب ماركوز إلى أن المجتمعات الاستهلاكية تتسم بالهيمنة الكاملة للمؤسسات الرأسمالية على السلطة وسيطرتها على عملية الإنتاج والتوزيع، بل صياغة رغبات الناس وتطلعاتهم وأحلامهم) أي إنها تتحرك في كل من رقعة الحياة العامة والخاصة)، فهي تنجح في خلق طبيعة ثانية مُشوَّهة لدى الإنسان إذ يتركز اهتمامه على وظيفته التي يضطلع بها (فهو إنسان وظيفي). وتتركز أحلامه على السلع ويرى ذاته باعتباره مُنتجاً ومُستهلكاً وحسب، دون أدنى إحساس بأية غائية كبرى أو هدف أعظم، ويرى أن تَحقُّق ذاته إنما يكمن في حصوله على السلع. ويتم إشباع كل رغبات هذا الإنسان داخل مجال السلع هذا، حتى يصبح الإنسان أحادي البُعد تماماً (مُتسلِّعاً مُتشيِّئاً) مرتبطاً تماماً بسوق السلع حدوده لا تتجاوز عالم السوق والسلع.
س: هل الإنسان ذو البعد الواحد هو الإنسان الاستهلاكي؟
ج: يمكن أن نقول ذلك، فالديباجات التي تستخدمها الإعلانات تبدو كما لو كانت دعوة للتعددية والفردية، ولكنها، في واقع الأمر، قناع ماكر يخبئ عملية فرض الأنماط الاستهلاكية الجمعية التي توحي للمستهلك بأن يقلد الآخرين، وأن يتبع الموضات وآخر الصيحات، فكأن الفردية هنا هي قناع لعملية استيلاء كاملة على باطن الإنسان، تُدخل في روعه أن هذا الحلم هو حلمه وحده، وأن هذه السلعة سبيله الوحيد لتحقيق ذاته، مع أنه في واقع الأمر وسيلة تجعل تطلعاته وأحلامه مثل تطلعات وأحلام الآخرين، وبذا يمكن للآلة الاستهلاكية الاستمرار في الدوران. إن المستهلك أحادي البُعد هو شيء أنيق الملبس يستهلك كل السلع المطلوب منه أن يستخدمها، داخل إطار مجتمع تتم إدارته من الداخل والخارج بطريقة هندسية رشيدة غير ديمقراطية. ومع هذا، وهنا تكمن قوة المجتمعات الاستهلاكية، يظن الإنسان أنه يمارس حريته وفرديته، فمجال الاختيار في عالم السلع واسع لأقصى حد. ولكن هذا يخبئ الحقيقة الأساسية وهي أن مجال الاختيار في الأمور المهمة (المصيرية والإنسانية والأخلاقية) قد تقلص تماماً واختفى، وأن هذا الإنسان فقد مقدرته على التجاوز وعلى نقد المجتمع، وأصبحت عنده مقدرة عالية على التكيف وقبول الأمر الواقع والإذعان له. ويسمي ماركوز هذه المجتمعات "مجتمعات ديمقراطية لا تتمتع بالحرية"، أي مجتمعات شمولية نجحت في أن تجعل الجماهير تستبطن الرؤية السائدة في المجتمع وتسلك حسبها دون قمع بوليسي خارجي، بحيث يرى الإنسان أن الهدف من الحياة هو تَزايُد التحكم في الطبيعة وتَراكُم السلع وبذا يسود ضرب من " غياب الحرية في إطار ديمقراطي سلس معقول " (بالإنجليزية: سموث ريزنابل ديموكراتيك أنْ فريدم) smooth reasonable democratic unfreedom .
والإنسان ذو البُعد الواحد هو ذاته الإنسان الطبيعي (الإنسان الاقتصادي والجسماني)، وهو إنسان بسيط يعيش داخل نطاق الطبيعة لا يملك لها تجاوزاً، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين، إنسان فقد تماماً العقل النقدي المُتجاوِز، وهو أيضاً الإنسان الوظيفي الذي يُعرَّف في ضوء الوظيفة التي تُوكَل إليه، وهو الإنسان الذي تم ترشيده وتدجينه في إطار العقلانية المادية التقنية. ومع أن ماركوز يخصص أحياناً ويتحدث عن الإنسان ذي البُعد الواحد باعتباره ظاهرة رأسمالية، إلا أنه، في معظم الأحيان، يراه باعتباره ظاهرة خاصة بالمجتمع الحديث كله.