كتاب " نزهة الخاطر " ، تأليف أمين الزاوي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب نزهة الخاطر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
2
أحب مربى المشمش!
.... تحت سقف البيت الكبير ذي العماد المتين، يعيش ويتعايش أفراد عائلتنا الكبيرة: الجد والجدة، والعمان والعمة، وأبناؤهم وبناتهم، وأبـي وأمي وأخواتي، وأنا الذي أحب مربى المشمش كثيرًا. خلق كثير، ولا أحد من هذا الخلق الكثير فكر يومًا في مغادرة البيت الكبير إلا إذا كان ذلك إلى المقبرة، وحتى من قد تخول له نفسه الأمارة بالسوء التفكير في ذلك، لا يسمح له بارتكاب معصية من هذا القبيل.
ما دام الجد على قيد الحياة فلن يغادر أحد العتبة الكبيرة، جد لم أعرفه منذ فتحت عيني إلا بلحيته الحمراء، المصبوغة على الدوام بحناء مائل لونها إلى الاحمرار، مما يعطي وجهه قوة بياض ناصع، يعبق منه عطره الخفيف، مخلوطًا على الدوام برائحة الصابون الحلبـي الأصيل، التي تصعد من ثيابه البيضاء النظيفة.
كان أنيقًا، كأنما خلق للنساء والأسفار.
كنت دائمًا أشبه صورة جدي وهو على مثل هذه الهيئة والجلسة والتأمل واللحية بصورة أحد أنبياء الله، لست أدري لماذا كلما لمحته يذكرني وبشكل مباشر بالمسيح عليه السلام!
جدي اسمه عبد المؤمن، سُمّي بهذا الاسم، كما يحلو له أن يردد ذلك دائمًا، نسبة إلى أحد أجداده العظماء، وهو عبد المؤمن بنعلي الكومي الندرومي، ابن صانع الأواني الفخارية، والذي ترك مدينته ندرومة مهاجرًا إلى تلمسان ثم بجاية، التي استقر فيها بعد أن عدل عن مواصلة رحلته إلى الحج؛ إذ فضل البقاء إلى جوار ابن تومرت ليصبح ملازمًا له، ليغادر بجاية بصحبة ابن تومرت متوجهين إلى المغرب الأقصى. وفي منطقة السوس تتم بيعة ابن تومرت مهديًّا للموحدين، وكان هذا الجد شاهدًا على المبايعة، ثم بعدها فُتحت الحرب على دولة المرابطين، وبموت ابن تومرت تولى عبد المؤمن بنعلي قيادة جيش الموحدين؛ فخاض حربًا دامت سبع سنوات فتح أثناءها مدنًا وبلدانًا، من ندرومة إلى تلمسان ووهران ووجدة وفاس ومكناس وإشبيلية بالأندلس، ومليانة والجزائر وبجاية وقسنطينة، وتونس والمهدية والقيروان وصفاقس، وسوسة وطرابلس وقابس...
كان جدي فخورًا بجده، يقرأ لنا من كتب التاريخ عنه وعن سلطانه العظيم، وهو يحلم في عز القيلولة باستعادة مملكته الضائعة وعرشه الممتد من ليبيا إلى سجلماسة.
وأنا أحب مربى المشمش.
هي عادة جدي، يوميًّا، عند ساعة العصر يأخذ كتاب "روض القرطاس" لابن أبـي الزرع، ويقرأ فيه بصوت عال هذه الفقرة التي تصور ملامح جده، يقرؤها وهو ينظر إلى نفسه في المرآة التي تنصبها أمامه جدتي، ليرى ملامحه في تلك الصفات التي كان عليها جده السلطان عبد المؤمن الكومي:
".. كان أبيض اللون مستويًا، بحمرة، أكحل العين، أجعد، تام القد، أزج الحاجبين، قويم الأنف، عريضه، مستدير اللحية، فصيح اللسان، فقيهًا... إمامًا في النحو واللغة والأدب والقراءة... حسن السيرة، نافذ الرأي، ذا حزم وسياسة وشجاعة وإقدام في الحرب... لم يقصد بلدًا إلا فتحه..".
كان جدي يقرأ هذا عن جده الأول، وعينه على وجهه في المرآة فلا يرى نفسه إلا في هذا الوصف، فتبتسم جدتي...
تصب له فنجانًا من قهوة العصر.
لم يكن جدي يحب الحرب، كان يحب قراءة القرآن والشعر، ويعشق ركوب الخيل والنساء والأسفار.
أراقب حركات جدي، وأغمس أصبعي في بوقال مربى المشمش.
أحب مربى المشمش.