كتاب " نزهة الخاطر " ، تأليف أمين الزاوي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب نزهة الخاطر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كان عمي سليمان هو من يحضر لاجتماعات الحزب الحاكم، فحين يجيء أصحاب الخطب العصماء من تلمسان أو وهران، "ناس الهدرة" كما كان يسميهم، كان هو من يعد لهم المنصة في الأسواق الشعبية، ويدعو الناس إلى الاستماع، بل كان يدعوهم إلى التفرج. كانوا يسمعون ما لا يفهمونه، يجلسون لساعات أمام الخطيب لا لشيء إلا لأن عمي هو من طلب منهم ذلك. كان الخطباء يتحدثون عن الاستقلال والجزائر المتحررة حين يكون الصيف، وعن العدالة والاشتراكية حين الخريف، ويغيبون في الشتاء ليظهروا مع الربيع لينشدوا الحرية والسلم، والناس تعرف أن لا عدالة تحققت؛ فالناس لا تزال تستعمل الأحمرة التي استعملوها أيام الاستعمار الفرنسي، ولا تزال الطريق الوحيدة المعبدة التي يسلكونها هي تلك التي عبّدها الاستعمار لأجل أرتال سيارات عسكره وجهاز قمعه.
يتحدث الخطباء عن الثورة والبارود والشهداء حين يكون الخريف، نسي الناس الشهداء إلا حين إعادة دفن بعض رفاتهم، كان عمي هو من يحفر قبور الشهداء الذين دفنوا على عجل من قبل رفاقهم في قبور منتشرة في السهول والسهوب والجبال، يجمع ما تبقى منها في كفن أبيض، يلم العظام، يصففها بعناية وصلاة، يضعها في صندوق كي يعاد دفنها في مقبرة الشهداء. المقبرة هي المؤسسة الوحيدة التي تم تدشينها في قريتنا منذ الاستقلال، وكانوا حين يحل الربيع يتحدثون عن "سيسي لوفو" (توقيف النار) الذي أفضى إلى الاستقلال. كان عمي يحفظ الخطب من كثرة ما سمعها من أفواه أصحاب الحزب والحكومة، كان يحفظها دون أن يفهم شيئًا منها، منهم أيضًا حفظ بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن الشهداء، من كثرة ما كرروها على منصات الأسواق الشعبية.
من كثرة إعادة دفن الشهداء التي تكون ثلاث مرات في السنة، في عيد الثورة وهو الفاتح من نوفمبر، وعيد النصر الذي هو يوم 19 مارس، وعيد الاستقلال الذي هو يوم 5 يوليوز. ولكثرة ما تتكرر قراءة بعض الآيات، ولأن عمي كان مجبرًا أن يكون في الصف الأول مع المسؤولين الكبار الذين يجيئون في مرات من العاصمة والله أعلم؛ فقد اضطر إلى حفظ آية الكرسي التي تقرأ في كل إعادة دفن وفي كل عزاء، وحتى في استقبال الحجاج، وحين أصبح متيقنًا من حفظها عن ظهر قلب، لم يكن يتردد في أن يرفع صوته فوق أصوات الجميع كي يؤكد لهم بأنه حافظ كتاب الله:
بسم الله الرحمن الرحيم: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" (صدق الله العظيم).
كان يقرأ آية الكرسي في كل مناسبة، وهي كل ما يحفظ من كتاب الله، وبها يحفظ ماء وجهه أمام الجميع من الغرباء أو من أبناء البلد.
كان عمي سليمان سعيدًا ذاك اليوم وقد جاءه خبر مفرح، وهو أن المسؤولين القادمين من مدينة تلمسان سيكرمونه، كان ذلك بمناسبة الاحتفالات بذكرى العشرين لثورة أول نوفمبر، استعد عمي لذلك اليوم أيّما استعداد، وكما هو المعتاد فقد رفع المنصة ونصب الطاولة والكراسي والبوق الذي فيه ينفخ النافخون، وكان يسميه صُورَ الجنة، ولكن شيئًا ما اختلف لدى عمي في هذا اليوم، فهو المشرف على تحضير الحفل، وهو أيضًا من المكرمين. لبس أجمل ما عنده من ملابس، وحلق لحيته مرتين، مرة عند الفجر والثانية عند مطلع الشمس قبل أن يغادر البيت الكبير. ولأول مرة شعر بنوع من التردد والخوف والقلق، ولأول مرة أيضًا سقطت القهقهة من على شفتيه فبدا متجهمًا، وجاء المسؤولون وصفق لهم الناس الذين اجتمعوا في السوق الشعبـي، وعلا الغبار الخريفي المكان، ونفخ المسؤولون في الصور الواحد بعد الآخر مرددين نفس الكلام الذي سبق وأن قالوه منذ عشرين احتفالاً، ثم شرعوا في النداء على المكرمين، وحين جاء دور عمي صعد المنصة وهو يقرأ آية الكرسي دون أن يعرف لماذا كان يقرأ آية الكرسي المرة بعد المرة. وحين تسلم عمي شهادة التكريم من يد المسؤول الكبير الذي أشبعه مدحًا، وعدد خصاله الحميدة وبلاءه الحسن أيام الثورة؛ تناول عمي الشهادة ثم اختفى.
حين انتهى الحفل وعاد الخطباء في سياراتهم السوداء من حيث جاؤوا، وعاد عمي إلى البيت الكبير حزينًا؛ وضع "شهادة مجاهد" الملفوفة بخيط أخضر قبالته، ظل صامتًا زمنًا أمامها، لم يعرف ما هو مكتوب عليها، ولم يكن يهمه ذلك، ثم قال بينه وبين نفسه وبمرارة: "هذا ثمن المجاهد وجزاؤه!"، ترحم على الشهداء من رفاقه، ثم استرجع قهقهته وابتسامته، وخرج إلى الساحة ليشرب القهوة مع جدي.
جلست قبالته وأنا أغافل جدتي كي أغمس أصبعي في بوقال مربى المشمش.
كان عمي سليمان حريصًا على الطاولة الكبيرة، والإزار الأحمر المصنوع من القطيفة الذي يوضع عليها ساعة الحفل، والبوق الذي ينفخ فيه الخطباء، إلى جانب المحمل الذي يستعمل في نقل الأموات وآلة حفر القبور. كان يركم كل ذلك في ركن من أركان مصلى جدي الذي يظل مغلقًا طوال أيام السنة، باستثناء شهر رمضان والعيدين، فلا وجود لقرية باب القمر بدون هذا العتاد الخاص بالموتى وبالخطب عن الموتى. كل هذا كان تحت مسؤولية عمي.
وكان عمي سليمان هو من يتولى الإشراف أيضًا على ضرب خيام الأعراس، فلا عرس إلا إذا كان عمي حاضرًا، وتحديد موعد الأعراس لا يكون إلا بمشورته وموافقته، فهو من يوزع أيام الصيف لأعراس الشباب، وهو من يتكفل بدعوة الفرقة الفلكلورية والراقصة وهو من يناقش معها ثمن الحفل، وهو وحده من يرفع سعر فرقة أو ينـزله، وهو من ينتقد راقصة ما أو يمدحها، وكلامه نافذ في الأسواق وبين الناس.