أنت هنا

قراءة كتاب الآنسة ازدهار وأنا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الآنسة ازدهار وأنا

الآنسة ازدهار وأنا

رواية " الآنسة ازدهار وأنا " ، تأليف عدي مدانات ، والذي صدر عن

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

كان لوفاتها على هذا النحو الرحيم، واستنزالها الرضوان على الآنسة ازدهار، ما أعطى الجميع قصة يروونها على مسامع المعزّين، كل بطريقته وبتفاصيل أزيد أو أقل، فأعادوا للآنسة ازدهار حضورها القويّ الذي غاب في السنوات الثلاث الأخيرة، وفتحوا الباب لتناول سيرتها، بروز مجدها وأفوله، وذهبوا إلى التأسّي على حالها الراهنة وطرح البدائل. لم أشارك في الأحاديث، فالمجال لا يتسع، ولو أنني سردتُ عليهم أقلّ التفاصيل التي حدثت في تلك الزيارة، لأخذ الحديث تلاوين وأبعاداً مختلفة، ولكنني تجاهلت كل الأسئلة، ولم أزد عن قولي ردّاً على كل سؤال: «إنها بخير»، أو «إنها لا تشكو من شيء»، ولا شيء آخر.

فمن هي الآنسة ازدهار؟ وما هو شأنها؟ وما صلتها بنا؟ ولماذا كان اسمها آخر ما نطقت به والدتي التي امتدّ بها العمر إلى تلك الساعة، فاستنزلت رضوان الله عليها؟ ولماذا كنتُ في ثالث زيارة لها وفي يوم اجتماع العائلة بأسرها؟ ولو سألني سائل منهم الآن، بعد أن انقضت فترة العزاء وهدأ أوارها: لماذا تكبّدتَ عناء زيارتها ثلاث مرات متلاحقة، وماذا أصبت؟ لتوقفتُ قليلاً ثم قلت: «أعطني حسن سمعك لأحدثك»، وهذا ما أنا فاعله الآن.

ولدت الآنسة ازدهار قبل ثلاثة وخمسين عاماً، وبعد قليل من اكتمال بناء منزل أسرتها في الجوار وانتقال الأسرة إليه، ومع ازدهار مطعم والدها وإقبال الناس على وجبات الفلافل والحمُّص والفول التي كان يجيد صنعها، ولهذا أسماها «ازدهار». أنا على يقين من صحة هذه المعلومات، لجوار منزلينا وقت ذاك، ولأنني كنت في السادسة من عمري، فبهذا أكبرها بستة أعوام، ومع أن هذا الفارق يُعدّ يسيراً الآن، إلاّ أن عوامل أخرى وسّعت فيه، فقد تغضّن وجهي وابيضَّ شعر رأسي مبكِّراً، وصرتُ جَدّاً لعدد من الأحفاد. أما هي، فما تزال تحتفظ بنضارتها، ربما لبروز وجنتيها المخضبتين على الدوام بحمرة شفيفة، وسعة جبينها على نحوٍ يؤكد أنفتها، أو لأنها لم تتزوج، ولم تلد، ولم تجهد نفسها كثيراً، أو لطول مدة خدمتها في التعليم واتصالها بصغيرات السن، واقتصار نشاطات حياتها على هذا الجانب. كانت وحيدة أهلها حتى سن السابعة، بسبب إسقاط والدتها الحمل مرتين، ولذلك حظيت بمكانة خاصة لم يبلغها غيرها من شقيقاتها وحتى شقيقها الوحيد، ولهذه الميزة بالمقابل تبعات تتكشّف دائماً في وقت متأخر، فقد رزئت الأسرة بمصائب متلاحقة، أصابها منها النصيب الأكبر.

نشأت صداقة بين أسرتي وأسرتها بحكم الجوار، إذ إنّ الضاحية كانت قليلة السكان، فقيرة العمران. لم أنسج صداقة مبكِّرة معها لفارق السن، فلفارق السن في باكورة العمر أثر كبير، فحين بلغَتْ السادسة من العمر، كنتُ أنا في الثانية عشرة، وحين بلغَتْ هي الثانية عشرة، أكملتُ أنا الدراسة الثانوية، وصرت على أعتاب الجامعة، وحين بلغَتْ سن الثامنة عشرة، كنتُ أنا على أعتاب التخرج من جامعة بلغراد، ولي صديقة لازمتني في السنتين الأخيرتين، غير أنّ فارق السن لم يحجبها عن نظري، فقد نشأت صداقة بين أختي بشرى وبينها، فكانتا تجتمعان في منزلنا أو منزل عائلتها. كانت بنظري مجرّد طفلة وقت أن كنتُ أتابع دراستي الثانوية كما هو شأن أختي بشرى، ولم أفقد أثرها بعد انتقالي للدراسة في بلغراد، فقد كانت ملاحظة تَدَرُّجها في العمر وتحوُّلات بنيتها متاحة، انتصاب جذعها، وبروز نهديها، واكتسابها ثقة مبكِّرة بنفسها، فأخذتْ موقعاً حسناً في نفسي، وأكثر منه في نفس والدتي. صرتُ أستوقفها، وهي في طريقها إلى منزلنا وأسألها عن أحوالها، فيتخضّب وجهها وتجيبني باقتضاب: «بشرى بانتظاري»، أو تنتحل أيّ مهرب آخر، ثم تتابع سيرها بخيلاء منتصبة القامة، فلا أملك إلاّ متابعتها بنظري، وأنا مُنشدِه لسرعة نضجها.

لم أكن أعرف أنّ والدتي قد قرّ قرارها على اصطفائها زوجةً لي، وأنها لهذا السبب زادت من اهتمامها بها وتقريبها إليها، ثم إنها صارت تجاهر برغبتها تلك.

كانت تزيّنها في نفسي وتقول:

- زينة البنات... إن شاء الله نفرح بزفّتك عليها.

وكنت أقول:

- أنا في أول دراستي الجامعية، وهي صغيرة السن.

فتقول:

- حين تنهي دراستك، تصير هي في سنّ الزواج.

الصفحات