رواية " الآنسة ازدهار وأنا " ، تأليف عدي مدانات ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب الآنسة ازدهار وأنا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وحين بلغَتْ الثامنة عشرة، وصرتُ أنا على أبواب التخرُّج، اعترفتُ لوالدتي بتعلُّقي بزميلة دراسة، فخاب أملها ولم تعد تكلِّمني في موضوع الزواج، غير أنها حافظتْ على ودِّها، وقد أسهم في دوام الصلة والودّ، الصداقة التي جمعت بين أختي بشرى وبينها، وتلاقيهما على الخير والشر.
تزوجتُ على أيّ حال صديقتي، فور انتهاء دراستي، بعد أن نلتُ مباركة والدي، وأحضرتُ زوجتي لعمّان، فيما أنهت هي دراستها الثانوية. التحقتُ أنا بوزارة الصحة، والتحقَتْ هي بالجامعة، غير أنّ القدر كان يعدّ لها مفاجأة غير سارة، فقد كسد مطعم والدها، بسبب شدّة المنافسة من جهة، وتبذيره المال من جهة أخرى، وأخذت أحواله تسوء، الأمر الذي دفعها لترك الجامعة والحصول على وظيفة مدرِّسة. كان والدها قد اقترض مبلغاً من المال من البنك بضمانة منزل العائلة، وحين ساءت أحواله عجز عن الاستمرار بالوفاء، ما دفع البنك للمباشرة بإجراءات بيع المنزل بالمزاد العلني، فما كان منها إلاّ أن أجرَت تسوية مع البنك، سدّدت بموجبها المبلغ المطلوب على دفعات شهرية، وبذلك لم يبقَ لها إلّا القدر اليسير من أجرها الشهريّ. استتبّ أمر العائلة بعد سنوات من العُسر بفضل عونها وتقديمها مصلحة العائلة على مصلحتها الشخصية ورفضها عروضاً للزواج.
ما كان لها من معين ينقذها من مصيرها سوى انشغالها بمهنة التعليم على نحوٍ متعاظم، حتى بات يُشغِلَ معظم أوقاتها، فقد التحقت بوزارة التربية والتعليم مدرِّسة للصفوف الابتدائية، لكنها مارست نشاطات إضافية مختلفة خارج إطار التدريس، منها الانتساب للجامعة السوريّة وحصولها على شهادة جامعية. ترقّت بعد سنوات قليلة لمنصب مديرة مدرسة للصفوف الابتدائية، ثم ترقّت لتشغل منصب مديرة لمدرسة ثانوية. يمكن القول دون مجافاة للحقيقة، إنّ خدمتها اتصفت بإخلاصٍ منقطع النظير لوظيفتها، فما إن أخذت مكانها في الإدارة، حتى ظهر أنها تولي تلك الوظيفة الأهمية التي تليق بها، فحدث التغيير الأوّل على مظهرها، وأسلوب خطابها ومشيتها، إذ إنها شدّت شعرها إلى الخلف وجمعت أطرافه وكوّرته بضمّة واحدة، فبرز جبينها على سعته، وضّاحاً حسب الوصف، ثم وضعت على عينيها إطار نظارةٍ عاجيّ، واختارت لردائها زيّاً موحد الشكل من ثلاث قطع لا يتغيّر به سوى لون قماشه، وحرصَتْ على أن يكون كلامها مع الجميع دمثاً وحازماً بالوقت ذاته، فأضفى عليها هذا كله هيئة وظلالاً وجلالاً، جعلها محبوبة ومرهوبة الجانب في الآن نفسه.
ربما يحدُثُ لديكم انطباع بأنّ تلك كانت علامات غطرسة، إلاّ أن ذلك غير صحيح على الإطلاق، بدليل أن علاقتها بزميلاتها المدرِّسات وطالباتها وأولياء أمورهن صارت إلى الأفضل، غير أنّ علاقتها بغير هؤلاء لم تزد عن المألوف، ولعلَّ هذا ما دفع بالشخص الذي أغرم بها، واستعان بأختي بشرى لتسهيل مهمته في اتخاذها زوجة له، لأن يعدل في اللحظة الأخيرة، ويغادر البلد، فلم يكن يعرف أنّ الزوجة في منزلها غير مديرة المدرسة في رحاب مدرستها، وأنها في دار الزوجية تحلّ عقدة شعرها وتحرِّره وتسدل على جسدها ثوباً ناعماً وفضفاضاً من قطعةٍ واحدةٍ وتتخلى عن إطار النظارة، ربما كان يعرف ذلك، فما من رجل لا يعرفه، غير أنه خشيَ من طغيان سلطان شخصيتها عليه.
تتابعت المتغيّرات من حولها، وانتهت بها إلى الحال التي هي عليها الآن من الوحدة والعزلة، منها ما هو مفاجئ ومنها ما هو مرتقب، فقد توفي والدها بجلطة حادّة، مع بداية إشغالها وظيفة مدرِّسة للصفوف الثانوية، وصارت الراعية بالكامل للأسرة. لم يدُم اجتماع الأسرة في منزل واحد، فقد تخرّج شقيقها من الجامعة ووجد عملاً فور تخرُّجه، ثم تزوّج وترك المنزل، وكذلك كانت حال شقيقاتها الثلاث، فقد تزوّجن والتحقن بأزواجهن. بقيَتْ شقيقتي بشرى على صلة وثيقة بها، وهي على ما أعرف صديقتها الوحيدة، غير أنّ تلك الصلة أصابها الوهن بعد أن تزوجت بشرى وصار لها أبناء يشغلون وقتها. بقيَتْ لها على أيّ حال وظيفتها ووالدتها، مؤنسها الوحيد، ولكنْ إلى حين، فقد فقدَتْ وظيفتها بإحالتها إلى التقاعد، بعد خدمة دامت زهاء ثلاثين سنة، وداهمت الأمراض والدتها، ثم فقدتها بموتها بعد معاناة طويلة، وظلّ المسكن على حاله، فاعتزلَتْ فيه، تماماً كما تعزل سمكة وحيدة في وعاء بلوري صغير جميل المنظر، وكأنّ حياتها، ما هي إلا واحدة من نزوات والدها، أو لعنة من لعنات القدر. لم يكن لها ذنب، سوى أنها أول المواليد، فتحوَّلت حالها من المحظيّة بالرعاية والدلال، إلى ضحيّة تلك الرعاية وذلك الدلال.
انتهى بها المطاف أن سلّمت بقدرها ولاذت بمنزلها أو عرينها وفق إحدى التسميات، متدبِّرة شؤون حياتها بمفردها، لا تُحوِج أحداً عناء تقديم العون لها مهما ضؤل شأنه. أثار عنادها وتمسُّكها بالبقاء في منزلها، الكثير من اللغط حول خيارها الصعب، وتسبَّب في الكثير من المداولات المربكة والمحاولات الفاشلة في أغلب الأحيان لثنيها عما سكنت إليه، ولم تجد من جانبها فيها سوى أنها وسيلة لإراحة أنفسهم فحسب.
كانت أختي بشرى تعود ساخطة بعد كل زيارة، وتقول: «إنّ القدر رزأ هذه الإنسانة الجليلة بأبخس ما لديه»، ثم تضيف: «إنها على الرغم من كل ذلك راضية بما حصلت عليه». وكانت والدتي رحمها الله تقول، ولا تستثنيني: «زينة البنات والنبي، والرجال انعموا عنها». كانت لها هذه المكانة في نفس والدتي وفي نفسي بدرجة أقل، ولهذا لا يمكنني الحديث عنها دون أن تأخذني الحماسة وتنتابني الرجفة، خاصة بعد زياراتي الأخيرة لمنزلها، فهذه الإنسانة التي أفل نجمها الآن وتوارى ظلُّها، لم تكن طيلة حياتها وإلى السنوات الثلاث الماضية، إلا علَماً مرفرفاً في فضاء حياتنا، وأزيد عن ثقة، في فضاء الحيّ الذي عشنا فيه برمَّته، والمدارس التي عملت فيها، سواء بوظيفة مدرِّسة عاديّة أو مديرة، وأنها تركت آثاراً حافلة بعزّة النفس، والأنَفَة، وحسن الإنجاز، والتدبير.
أطلعتني بشرى على ما يُشغِلَ بال أفراد أسرتها، فلم أدلِ برأيٍ أو أسهم بأيّ محاولة، لا عن تعفُّف وحسب، وإنما لانشغالاتي الأسريَّة والمهنيَّة، ولم أشذّْ عن القاعدة إلاّ هذه المرة، فقد حُمِلتُ لغفلة مني، أو سوء تقدير، أو حماسة زائفة، لإيصال رسالة إليها، عظيمة الشأن وبريئة الغرض كما توهّمتُ، من شأنها، دون إجحاف أو إخلال بخياراتها الخاصة، تأمين فضلة زائدة من المال توفِّر لها فرصة ترتيب حياتها على نحوٍ مغايرٍ لما استقرَّت عليه وأقلق الجميع بما فيهم أنا. كنتُ على يقين من أنني أتيتُ لها بأفضل الحلول، وأكثرها إنصافاً وتوافقاً مع رغبتها في العيش في عزلة وسكينة نفس، بعد ضجيج سنوات العمل الطويلة، تلك السكينة التي بَدَت لأفراد أسرتها الأحياء، شاحبةً جوفاء وباعثةً على القلق، مع أنّ ما من أحد نقل عنها تذمُّرها.