كتاب " الحيرة والأحلام " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دا
قراءة كتاب الحيرة والأحلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لديك وظيفة، وزوجك ضابط في مكتب التحقيق، وطفلتك ماشاء الله من اللطافة والجمال، بشعرها الأشقر وعينيها العسليتين، وأثوابها المزركشة والمشجرة وأقراطها الذهبية، أرى في حكايتك حسداً ونفساً حارة، طقطقي حرملاً قبل الغروب واخلطي معه بخوراً، إذا رأيت من تشكين فيه الحسد والعين الجاسية تشكّي في وجهه: «الراتب لا يكفينا علينا دين، ابنتي مريضة، تشاجرت مع زوجي البارحة ضربني على رأسي». تأففت أم دلوبه وهي تهز رأسها، ثم قالت: سمعت من غيرك ما تقولين، المدينة ما شاء الله معمورة وعامرة بالحساد والمتخلفين، سأفعل ما توصيني به، وإن كنت لا أحسن الشكوى. بقيت أمامهما خطوات، انحرفتا إلى اليمين لتطلعا إلى الزقاق، ارتعشت الأنامل فجأة، خفق قلباهما واصفر وجهاهما، حشد كبير من الرجال والنساء والصبية والأطفال قرب بيتها، بكاء وصراخ، الرجال يتحركون ولا يدرون أين يذهبون، أصوات تختلط، جلبة، هرج ومرج، ركضت نحوهما مجموعة من الصبية يصيحون: ضاعت دلوبه، اختطفت دلوبه، ماتت دلوبه.
جمدت جوارحها، ألقت بنفسها على الرصيف، أُغمي عليها، لم يبق لها من وسائل الاتصال بالزقاق سوى نفس بطيء وسمع لا يفيد.
أقبل من أقصى الزقاق صبي يسعى، يتعثر بثوبه ويومىء بيديه، توجهت الأنظار إليه، أحسوا به يحمل أخباراً عنها، شق طريقه وسط الُزحمة ووقف يناديهم بصوت عال:
ـ يا أبناء الحارة، رأيت قبل ساعة من الآن امرأة سوداء مربوعة، تحمل طفلة، تلفها بعباءتها، لم يظهر منها سوى قدمين صغيرتين متدليتين وطرف من ثوب مشجر، تداعبها والطفلة لا تجيب، تبدو وكأنها تمازحها، تكشر عن أسنان مذهبة، وعلى وجهها نمش أحمر.
عض الصبي على سبابته، ضرب إحدى راحتيه بالأخرى مرتين، كناية عن الندم لعدم اعتراضه إياها، صاحت امرأة من جانب الرصيف الذي كانت تلعب فيه:
ـ انظروا هذه قطرات يابسة من دمها.
حدث صمت فيه وجوم، وتأمل فيه آسى وحسرة. تقدم أبوها نحو الصبي، قبله وربت على كتفه، قائلاً:
ـ بارك الله فيك، وضعت لنا طريقاً لعله يهدينا إليها، أو نعرف شيئاً عن مصيرها، التفت نحو القوم المحتشدين كأنه يتفقدهم، وقال لهم:
يا أبناء الحارة الكرام، لا تفوتنكم المرأة إذا رأيتموها مرة كما وصفها لكم الصبي لن تنكروها في الثانية، بثوا العيون وأنا من الساعين.
غرقت ميسان في ليل بهيم، أغلقت أبوابها كعادتها قبل العشاء خلت شوارعها بعد الغروب من الباعة والمتسوقين، تعاهد أهلها وأقسموا اليمين ألّا يخرجوا للنزهة والتجوال بعد الغروب، تسلطت على رقابها وأحكمت السيطرة عليها سنوات القهر والتخلف والحروب، أمسى فؤاد أم دلوبه فارغاً، إلا من دمية اشترتها صباحاً من السوق، عبثت الحسرات بقلبها، وأخذ ينخر الأنين في عظامها، كان الكلب الأسود يطاردها البارحة، والليلة يطارد ابنتها نسر كئيب.
وجدت دلوبه نفسها حمامة بيضاء، تحلق في أجواء المدينة، تبحث عن فراش أمها، اشتاقت نفسها إلى جرعة من الحليب لتنام سويعات على صدر أمها ويستقر قلبها من فزع يوم رهيب؛ لكن الشيء الذي نغص عليها حريتها وانطلاقتها نسر أسود يطاردها، يغريها بأن يعيد إليها قرطيها، إلا أنها لا تطمئن إليه، لقد خبرته، واطلعت على أسرار خبثه، وقد زهدت نفسها بالأقراط وجمالها وطبيعة مادتها وارتفاع سعرها، فرحت بقدرتها على الطيران وانتصرت على أعدائها النسور والعقبان والغربان بالأمس كانوا يتربصون بها، ويهددونها باقتلاع جذورها من الأرض بالخوف والرعب، أخذت تصعد في التحليق بأجنحة من نور، نظرت إلى أسفل، رأت النسور والعقبان لا تستطيع التصعيد في التحليق، تقطع مسافة ثم تعود أدراجها إلى الأرض خاسئة، أو تتحرق كأنها رجمت بشواظ من نار، قطعت مسافات لا تبلغها الأبصار، وبسرعة لا تحيط بها الكلمات وصلت إلى سلم التعريج.
خرج أبوها في الصباح الباكر يتجسس، وهو يرتدي ملابس عمال كسبة، كان متوسط القامة ممشوقاً مصمتاً ذا بشرة بيضاء، قادته خبرته في مكتب التحقيق إلى التصميم على أن يبحث عن ضالته في سوق الذهب، ذهب إلى محل كبير لبيع المرطبات، اشترى علبة من الفلين، يستخدمها الباعة المتجولون لحفظ المرطبات، ويوصلون بها حبلاً، يضعونه على رقابهم، وضع أدوات عمله على رقبته، وأيقظ بصره وخبرته وتوكل على الرزاق الذي لا ينام.
يقع السوق في نهاية شارع التربية الضيق المزدحم إلا أنه يختلف عنه باتساع صدره، حتى يوشك أن يشكل ساحة مستطيلة، يضم ما يقارب عشرة محلات لبيع الجواهر وصيدلية، ويقابله سياج طويل لمرآب، يسرح قدميه نحو تفريعات محلة «الجديده» وشارع دجلة، عليه أن ينتظر ثلاثين دقيقة، حتى يتقاطر على السوق زبائنه وهم من النساء عادة، سوداء مربوعة على وجهها نمش أحمر، تكشر عن أسنان مذهبة، كلمات عاشت في صدره وعبثت بفكره يوماً وليلة، تقابلها صورة، تحمل دلوبه، وصورة لا تفارقني حتى النفس الأخير «حسرة إلج بالدلال ظلت لما أموت»((4))، يقصد دلوبه.
دبت حركة في السوق، كلمات دعاء تسمع هنا وهناك: «يا فتاح يا رزاق، يا كافي الشر، يا رازق العباد»؛ أطلق هو كلمات مسموعة: «يارجع يوسف إلى يعقوب» عليه أن يتحرك بامتداد الشارع ذهاباً وإياباً، يتلفت، يحدق في الوجوه، يصيح بين لحظات متباعدة:«موطا، موطا». لا يبيع للنساء الطويلات، كان معجباً بالقصيرات، يعشق الدعيات المربوعات. أقبلت مربوعة من بعيد، من جهة «الجديده»، لم يتأكد على وجه التحقيق إن كانت سمراء أو سوداء، خفق قلبه، ارتعشت قدماه، اعترضها وهو يصيح «موطا، موطا، برد كلبك((5)) يا ولد، بردي كلبج يا حبيبة، يا عروسة يا خطيبة». ضحكت على فطرتها، كشرت عن أسنان صفراء، لم يتبين على وجه التحقيق إن كان ذهباً أم صفرة شاي، ناولها قطعة من المرطبات وقال لها:
ـ إذا لم تكن لديك نقود، كُلي على حسابي.
انطلقت منها ضحكة فطير، وسألته:
ـ أتعرفني؟
ـ يبدو عليك ابنة عشاير، من أي قبيلة أنت؟
ـ «والعباس، وداعة سيد سريوط، أنا من عشيرة جبيره تملأ الهور والزور، من رآهم يخاف من بيوتهم، أهل نخوة وشرف».