قراءة كتاب الحيرة والأحلام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحيرة والأحلام

الحيرة والأحلام

كتاب " الحيرة والأحلام " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

فتحت عيني، وجدتهم يتسورونني وينظرون إليّ باستخفاف، يبتسمون، ويضحكون ثم سألوني:

ـ «ها، إشخيرك دخت، مريض ناخذك للطبيب» ((29)) .

ـ «لا، لا، سلامتكم».

تفقدتهم، لم أجد صويحباً معهم ثم نادوا السائق:

«افتح له المسجل، سمعهه غناوة، بلجت يرتاح إشويه»((30))

انطلقت موسيقى وصوت غناء من جهاز:

«الناس ما تعرف ترى

خايف وناري إموجّرة

سافرت من غير اوداع

لا من شاف لا من درى

بويـهْ إشصار بويهْ إشجـــرى

بويـهْ إشصار بويه إشجـــرى

وإنسيـت عشرتنــــا إبســاع

بويهْ إشصار بويه إشجرى» 3

 

الموسيقى راقصة، والأغنية معبرة استجابت لها نفسي وأنفسهم، بدأوا يطوحون برؤوسهم ويهزون أكتافهم ويدقون بأصابعهم يرقصون وهم جالسون. ينظرون إلي، يبتسمون ويضحكون. إذا تأملتهم حسبتهم سكارى، أخذ السكر منهم مأخذه، سايرتهم لعلي أكسب ودهم، ابتسمت لهم، وضحكت معهم، وعلى حين غرًة صحت بالسائق:

ـ «نازل، نازل، رحمة لوالديك».

حدث ما لا أتوقعه، توقفت الحافلة فجأة، فُتح الباب، سألوني:

ـ «ها، تريد تنزل».

ـ «أي والله» .

فسحوا لي المجال، ساعدوني على النزول، قبل أن ألج الباب، وضع أحدهم يده على كتفي، أشار إلى شارع مقابل، ثم قال لي:

ـ «هذا الشارع تاخذه كبل، يذبك على صويحب، يطيك حسابك من البيع والشراء»((31)) .

ـ «رحم الله والديك، الله يكثر من أمثالك».

وطأت قدماي أرض الله، تنفست الصعداء. عبرت الشارع على عجل، ثم وقفت أتلفت وأتفقد المكان رأيت ساحة «خمسة وخمسين» تبعد عني مسافة قصيرة، حدست إلى يساري أبنية من مسافة تؤدي إلى «سوق الحي». ولكن ليس في الشارع أناس ولا أبناء سبيل غيري، أبواب البيوت مغلقة، ومصابيح الكهرباء مضاءة، ومن وضع يده على كتفي لم يكذب عليً، الطريق يوصلني إلى عمارة صويحب، سألقاه يحسب الدنانير في دكانه؟ أم نائماً مع زوجته أم أولاده في الطابق الثاني؟

سرت في الطريق متباطئاً يوخز قدميّ الخوف والتوجس، راجعت دفتر ذكرياتي فوجدت فيه:

«كان يا ما كان»، كان في قديم الزمان: أصابنا قبل عشرين عاماً قحط شديد، أكل الأخضر واليابس، بعنا ما لدينا من جديد وعز علينا شراء القديم، تنكر الأخ لأخيه، ولم يبق للمحتاج فيه صديق، قلّ الدقيق، وازدهرت سوق النخاسة والرقيق، نزع الموظفون ربطة العنق والتحقوا بالعبيد، تركت وظيفتي بحثت عن عمل جديد. جلست في البيت أفكر وزوجتي «صينية» تطلب حاجات وتريد، حتى سئمت وجهها المدور وأنفها الذي يشبه القضيب، يلف محجريها حاجبان كأنهما في الطول عام عصيب، جلست وجلس أخوها صويحب أمامي واقترحا عليّ بما يشبه التهديد:

ـ «كاعد وساكت بالبيت، لا تثرد و لا تغمس، تنام وتكعد، وتاكل وتنام مرتك وجهالك يريدون ياكلون ويشربون»((32)) .

رفعت كفي أمامها، وكأني أطلب منها:

ـ «شسوي، ماكوشغل، صاحلي شغل وما أشتغل»((33)) .

ـ «السوك يعش أكبار وصغار، أخوتي يشتغلون بالسوك ويحصلون فلوس كرف، ليش ما تشتغل وياهم».

قال صويحب:

ـ «لكيتلك خوش شغله بس يرادلها شجاعة وصبر، اليوم التمر بالشورجه الكيلو بخمسمية دينار، ومن يجي رمضان بعد خمس تشهر، يصير الكيلو بتسعمية دينار، وأنتم شفتوها كل سنة، شنهي رأيك تبيع البيت وتشتري بفلوسه كلها تمر، وخلال أشهر تربح بكثر قيمته، تشتريلك بيت والباقي تسويلك بيهن شغلة».

ـ «خاف أخسر»((34)).

ـ «ماطولك تخاف ما يصير براسك خير، اليشتغل ما يخسر، بس اليموت يخسر»((35)).

اقتنعت بعد تردد بترغيب من صويحب وما يشبه التهديد من صينية، بعت الدار بمليون واشتريت بالمبلغ كله تمراً من الدرجة الممتازة، خُيًل لي وأنا أمشي في السوق بأني أصبحت في عداد التجار، أبتسم كثيراً، وأضحك قليلاً حسب سياسة التاجر الرصين، كاد صدري أن يفرغ من الصبر، حتى رأيت الربح يضحك في عيني كصورة الهلال، وقفت في السوق جذلاً أصيح:

ـ «تمر، تمر، خستاوي، الكيلو تسعمية، الله يديمك يارخص، شكرلمة، يا صايم إحمد ربك، تشرب ماي وتاكل تمر».

صخب في السوق وجلبة، صياح لا أفهمه، تدافع الناس في هرج ومرج، انقضوا من حولي. المتسوقات يزغردن، والبائعون في وجوم، صوت ينادي من بعيد: هبط السعر وانفك الحصار. خسرت بيتي والتمور.

مشيت في شوارع المدينة تائهاً أتلفت، أنزع لحيتي من جلدها شعرة شعرة، أعض على أصابعي بأسنان متكلسة.

الصفحات