كتاب " الحيرة والأحلام " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دا
قراءة كتاب الحيرة والأحلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دلوبه ذات الأقراط
حلق في أجواء المدينة نسر أسود، لا نعرف أصله إن كان من البدو أو من قبائل المعدان، لسانه في الفصاحة ذَرِب، إذا جاع يصيح “أنا جوعان”، يطلب من الحافي نعالاً، ويسلب العُريان، جنسه أنثى تحررت من مواطن الحب والحنان، وارتقت في مراتب التحصيل والمعاش حتى لحقت بجنس العُقاب في السطو والإقدام، اختارت من المدينة هذه المرة محلة «الإسكان»، تباطأت في خطواتها، تراقب الأبواب، وتقرأ في الحيطان بعينين حمراوين رأت دلوبه من بعيد، تستنشق بأنف ذلف عطر الحياة، تضحك مع الصغار، ويضاحك الشمس في أُذنيها قرطان، تلفتت يميناً وشمالاً، نادتها عن قرب: «تعالي يا حبابه يا حلوة يا أم تراجي». رفعت الطفلة رأسها، انقبض وجهها، كشرت لها عن أسنان مطرزة بالذهب، مسحت على رأسها، قبلتها، مدت يدها إلى قرطيها تداعبها، كان بوسعها أن تنزع سلكاً رفيعاً، لكن العجلة والشيطان وحلاوة الذهب نزعت من قلبها الإشفاق، فخرطت قرطيها، حتى انخرمت أذناها، أطلقت صرخة واحدة. أصفرَّ وجهها، حملقت بعينيها، كاد جسمها البارد أن يفترش الأرض، تلقفتها بمخالب ملطخة، ووخزتها بنظرة، فوجدتها مستسلمة لنعاس سرمدي؛ أخفتها تحت عباءتها، وضمتها إلى صدرها، وأخذت تداعبها، تكشف عن أسنانها فيحسب من يصادفها أو يسير خلفها أنها ابنتها من ترائبها وصلب زوجها، رزقت بها بعد ولادة عسيرة، أسرعت في خطاها واستجمعت قواها، عليها أن تقطع مئات الخطوات حتى تنحدر بها إلى أحشاء الجسر. بعيدة تلك المسافة القصيرة وطويلة تلك الدقائق المعدودة بالنسبة إلى دلوبه والنسر الذي يحملها. مئات من الخطوات تحسبها دلوبه والنسر رحلة طويلة بين الموت والنجاة.
سرت في شارع عريض، تتنازع أشباحه الأنوار الخافتة والظلام، من أجبرني على الخروج من داري؛ تشاجرت مع زوجي؟ لا أتذكر.كانت دلوبه تلعب في الشارع مع صديقتها ليلى، لا أعتقد أنني تركتها نائمة إلى جنبي، شعرت أن قلبي يحترق من عطش شديد وظمأ لا يطاق، وضنك غير مألوف.
وجدت نفسي أبحث عن ماء بارد، والجهة التي أروم الذهاب إليها في الشط الغافي تحت الجسر، يبست شفتاي، وتحرق قلبي، أريد أن أشرب منه، وأسبح فيه، أحسست فجأة بصوت مريب، يلهث خلفي من بعيد، تلفتت عيناي، وتوجس القلب الحرور، رأيت من بعيد كلباً أسود كبيراً يسعى نحوي، شعرت بالخوف والارتباك ماذا أفعل؟ أين أتجه؟ كيف أستطيع الخلاص؟ لم تمض إلا ثوان معدودات، حتى بدأ يقترب مني وينبح بصوت أجش أبح ويلهث فاغراً فاه يخرج لساناً طويلاً أحمر وقد احمرت عيناه. أحسست به يشاركني العطش وكأنه يبحث عن ماء لكنه يقصدني، ويروم اللحاق بي، يطاردني، ويقطع المسالك عليً، استغثت بالصراخ: «ها الاولاد، ها يا أهل الإسكان، يا أبناء الحلال، يا الله، يا من يجيب المضطر إذا دعاه». أصرخ وأستغيث و لا مجيب. الشوارع فارغة والأبواب مغلقة، لا أسمع في البيوت أنساً ولا صوتاً. أحسست بصوتي محبوساً في صدري، لا ينطلق في الهواء من الفزع وشدة العطش، بين لحظة وأخرى يهجم عليَّ بقفزات مرتدة، ويحاصرني باتجاه المتنزه المجاور للجسر، لكنني لا أجد في السور الحديدي منفذاً للخلاص، ثم يعود إلى منتصف الشارع، يركض معي ويتأخر قليلاً عني، ينظر أمامه، ثم يدير وجهه نحوي كأنه يراقبني.أدركت أنه يستدرجني ليفترسني في الشط، لم يبق بيني وبين المصير المجهول إلا مشوار قصير، سمعت دلوبه فجأة تبكي وتصرخ قرب الجسر. تعثرت وسقطت على الرصيف. نهضت في رعب فوجدتها نائمة بجانبي، وكان ذاك هو الخلاص. قصت حكايتها على جارتها أم ليلى في طريق عودتهما عند الضحى من السوق.
سألت جارتها:
ماذا ترين في هذا يا أم ليلى؟ أكابوس هو أم نذير شؤم وبلاء؟ إن ثقافتي وإن كنت معلمة لا تساعدني على معرفة ألغاز الطيف، أجابت أم ليلى وهي تضحك: «متعجبة بدنياج غثتج فد يوم»((2)). أنتِ منشغلة بالعمل بشؤون البيت ولا تعلمين كثيراً ما يدور في أذهان نساء الزقاق وما يعتمل في نفوسهن من متاعب وأوهام؛ كثيرات منهن يشتكين من العوز، وأخريات كثيرات يخفن من الحسد ويتحاسدن، ذوات عيون براقة تجدح وتقدح، عيونهنّ في إصابة المحسود «موازر»((3)).