كتاب " قضايا في الرواية الأردنية " ، تأليف الدكتور نضال الشمالي ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب قضايا في الرواية الأردنية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
قضايا في الرواية الأردنية
وعبد الرحمن منيف في حديث بعض ما جرى يحشد عشر صفحات في مطلع روايته لاستقصاء أبرز الأحداث التاريخية التي جرت قبيل البداية الفعلية للرواية، لكنه لا يعرضها بالصرامة والدقة اللتين سلكهما كتّـاب الرواية التاريخية في مرحلتها الأولى، فالتواريخ مغيّبة عن السرد، وهذه خطوة أولى نحو تطويع المادة التاريخية، فضلاً عن ذلك فإن الراوي يحاول استعراض أكثر من رأي في القضية نفسها ليشعرنا بفنية العمل وليعمق في أذهاننا الإشكالية السياسية الحاصلة، وشاهده: لم يكد سليمان باشا يلفظ أنفاسه - وقيل إن ذلك تم قبل ساعة من الوفاة- حتى جمع رئيس الإنكشارية، أحمد آغا·· فهذه الإضافة وغيرها تسبغ على العمل الروائي التاريخي مصداقية فنية تنقذه من المرجعية التاريخية، إضافة إلى أن الراوي كان يضيف بين سطر وآخر عبارات توحي بقصصية الحدث لا سردية التاريخ، مثل: ما كادت هذه الغمة تنقضي، وقبل أن يستمر الوضع لعلي باشا حتى بدأ الغزو وأشيع خلال تلك الفترة أن محمد بك الشاوي وأخاه عبد العزيز، يميلان إلى العقيدة الوهابية(11)· وقد يضطر كاتب الرواية الملحمية أحيانا لأن يضع نصا تاريخيا في مستهل مشهد انتقالي جديد يمارس فيه تقنية القطع المكاني، فيلجأ إلى التعريف بالخلفية التاريخية للمنطقة قبل أن يفترشها بالأحداث، ففي المقطع المكاني الخامس من رواية الزوبعة (1994-2003) لزياد قاسم(12)حديث عن التاريخ السياسي لمدينة العقبة التي كان لها دور كبير في قيام الثورة العربية الكبرى التي حدّت من نفوذ الأتراك كثيرا في بلاد الشام وكان لها الدور البارز في رسم الخارطة السياسية في القرن العشرين، وسيكون للعقبة دور كبير في إضعاف الأتراك بعد احتلالها من قبل القبائل العربية الثائرة بقيادة الأمير فيصل: تعود بداية الاستقرار لسلالة الأدهم، إلى بداية ثلاثينات القرن التاسع عشر، عندما انسحبت قوات إبراهيم باشا الكبير من بلاد الشام، تاركة وراءها جيوبا من العساكر والجنود ليكونوا عيونا لها وقواعد يعتمد عليها عندما تسنح الظروف ثانية لعودة القوات المصرية وانتزاع الحجاز وبلاد الشام من براثن الدولة العثمانية(13)، إن مثل هذا التأسيس التاريخي يكثر عند قاسم في رواياته عامة والزوبعة خاصة، فمسار العمل محاذٍ تماما لمسار التاريخ، بل إن زيادا لينسج أحداث روايته على تبعات التاريخ السياسي للمنطقة من باب تفسيره أو إكماله أو طرح رؤية خاصة له للأمر في الحقبة التي يلقي بظلال السرد عليها· من هنا نجده حريصا على تأصيل شخوصه وزراعتهم في التربة التاريخية الخصبة حتى يثمروا أحداثا تتناسب وخطى التاريخ ولكن بتصرف· ويبقى زياد حريصا على مبدأ التوثيق التاريخي عندما يسير، فهو يقول في معرض حديثه عن شخصية رجا الصليـبي إحدى الشخصيات الرئيسية في الجزء الأول من الزوبعة: الصليـبي لقب أطلقه بدو الجبيلية على رجا عندما قدم إلى مضاربهم في الفترة التي اشتعلت فيها الفتنة الطائفية في لبنان في العقد السادس من القرن التاسع عشر، بدعم انجليزي للدروز وفرنسي للمارونيين، فامتد أوارها إلى وسط سوريا وجنوبها(14)·
إن مثل هذه التدخلات ذات البعد السياسي تكسب العمل مصداقية فنيّة تتجاوز الالتفات نحو التاريخي فقط· وقد رأينا كيف أظهر عبد الرحمن منيف حرصاً في مطلع روايته على أن يسرد ماضيا يمتد سنوات خلت هي بمثابة توطئة لمجريات الأحداث اللاحقة من جهة، ومن جهة أخرى منح الرواية التاريخية طابعاً تاريخياً منذ البداية· وأما زياد قاسم في روايته أبناء القلعة (1991) فقد استهلها بقصيدة شركسية مترجمة عنوانها مبكاة التهجير وهي قصيدة للشاعر حاج برزخ جراندوقة يستحضر من خلالها أزمة تهجير الأمة الشركسية من موطنهم الأصلي في القفقاس (جنوب غرب روسيا)، وزياد بذلك يحاول أن يلمّح إلى تهجيرات مماثلة ستطال أمما أخرى بموازاة الشركس، وفعلا هذا ما كان مع الفلسطينيين في عامي 1948م و1976م، وبين هذين التاريخين السياسيين وقعت أحداث روايته· أما في روايته التاريخية الزوبعة فلم يستهلها بأي إشارة تاريخية يعرضها في المطلع بل جاء الزخم التاريخي داخل الرواية، وقد نحت الروائية الأردنية سميحة خريس في روايتها التاريخية القرمية: الليل والبيداء 1999 المنحى نفسه، إذ ادّخرت أحداث الثورة العربية الكبرى داخل مشاهد الرواية·
الطريقة الثانية: مزج السردي بالتاريخي؛ وهي طريقة متقدمة في دمج معالم خطابين متضامين في صورة واحدة· وهذا يساعده على تقديم التفسير والتحليل وربما التأويل فيما يقترح، ففي رواية القرمية لسميحة خريس وهي رواية تلخّص مجريات الثورة العربية الكبرى1916(15)جاءت كثير من الأحداث التاريخية ممتزجة بالسردي المتخيّل بطريقة فنية متوازنة حتى أن القارئ ليحار في الفصل بينهما، إلا إذا كان قارئا لتاريخ الثورة العربية الكبرى عندها سيميّز حدود التلاقي بين هذين الخطابين، والاقتطاع التالي يروي حادثة مناوشة بين جند من تحالف الثورة وحامية تركية مسؤولة عن حماية القطار الحجازي: أناخ مفلح جمله وكذلك فعل الراكبون، تأخرت الخيل والإبل وسار عدد من الرجال على أقدامهم يحملون الديناميت··· عندما أطلوا من فوق الجسر على الحامية الغافية صار إنجاز مهمتهم وشيكا، إلا أنّ جندا من الأتراك رفعوا رؤوسهم أعلى التل ولمحوا القوة المترجلة فسدّدوا بنادقهم في نفس اللحظة التي أسقط فيها الرجال أصابع الديناميت وفرّوا· هدر صوت القطار قادما من بعيد وكان على لورنس أن يقدّر بدقة الوقت المناسب ليضغط جهاز التفجير، لكن انكفاء الرجال عن هجومهم المضطرب على الحامية زاده توترا، فضغط جهاز التفجير قبل وصول القطار، تطايرت الحجارة وارتمى لورنس في مكان قريب ودمه يلطخ ذراعه اليسرى في حين طار جسد فهد الزبن إلى حفرة قريبة، واختلط الفارون بمطاياهم وتزايد الهرج.(16)، والمقطع السابق يجمع ما حصل تاريخيا مع لورنس ورفاقه بإضافة تفاصيل دقيقة متخيلة، حتى أنه وبعد نهاية المقطع مباشرة تتدخل إحدى الشخصيات المتخيلة في الحدث وهي شخصية عقاب أحد فرسان الثورة، إن مثل هذه الموازنة بين التاريخي والسردي لينجز تلاقحا يجلو صورة المشهد ويمسح عنها الغبار لتغدو اكثر تمثلا لدى القارئ·
وفي مشهد أخرى يحدث تداخل مماثل: دوى صوت المدفع، وصفق نوري السعيد والارتباك يعاود المعسكر التركي، والبدو الذين لم يستشعروا ما حدث في اللحظات الفاصلة، تمكنوا من الوصول إلى قلب المحطة، وأمام كثرتهم، رفعت الحامية الصغيرة علم الاستسلام، كان منظر القطارين الرابضين على أرض المحطة العامرين بالمؤونة مغريا، فتدافع البدو إلى المقطورات المربعة يفرغون حمولتها، وتلفت عودة جزعا، وهو يرى عقاب يحمل جسد بين ذراعيه، كان ذلك مفلح القمعان شيخ الصخور عدو الأمس، حليف المعركة الذي أردته رصاصات الأتراك وهو يهبط مهاجما، انقبضت ملامح عودة وهزّ البعض رؤوسهم(17)، والمشاهد السابق مشهد يتوغل في حدة الصراع بين تحالف الثورة ضد الأتراك، إذ يكشف حدة الصراع وينقل التفاصيل الدقيقة الممتزجة بالمشاعر·
وفي مشهد مماثل للامتزاج بين التاريخي الحقيقي والسردي المتخيل هذا المقطع من رواية الزوبعة: تواصل القتال سجالا مع الوهابيين· تارة في بقاع شرق الأردن، وطورا في عمق الجزيرة· وكلما حقق أحد الأطراف نصرا سجل الآخر ثأرا· فتعود الكرة من جديد· طلاب ثأر أو مطلوبين له· فانهكت المعارك الجانبين وترملت الكثيرات وتيتم الأطفال والصبية والفتيان والفتيات··· طلب الميجر فيلبي من أمير نجد تهدئة الأمور الحربية في المنطقة حتى لا تتطور الأحداث وتمتد الاشتباكات إلى الحجاز وبادية الشام والفرات، فأوعز هذا إلى أمير الجوف الوهابي أن يدعو للصلح· فاجتمع بزعل وشيوخ العشائر المتحاربة، بحضور أحد الأمراء السعوديين في بريدة(18)، وما يلاحظ أن الشخصيات والأحداث التي وردت هي مثبتة تاريخيا إلا الشيخ زعل زعيم قبائل الجبيلية، هو شخصية متخيّلة لا وجود لها في أروقة التاريخ لكنها شخصية رئيسية في العمل تحركه وتصنع حركة دورانه وتطرح خطابها الإديولوجي بطلاقة مستقلا عن إديولوجيتين آخريين تتصارعان سياسيا· إن الاستعانة بمعلومات تاريخية خلال مشهد سردي حواري حقق المزج تحقيقا تقنيا، وقد جاء هذا الأمر عفوياً دون قصد واضح، وفي هذه الطريقة يظهر التوازن بين المرجعية التاريخية والمرجعية الفنية، فمن خلال الانشغال بتتبع الأحداث المتعاقبة تأتي المعلومة التاريخية لتكمل المشهد دون تكلف أو قصد، والرواية بذلك لا تعكس الحقائق كاملة كما هي في الواقع، يقول حميد لحمداني: وهكذا فالنص الروائي في هذه الحالة لا يعبّر عن معرفة لأنه لا يمكن أن يعكس الحقيقة الكلية للمسار التاريخي ولكنه يعبر عن معنى من المعاني أي يعبر عن حدوده المعرفية(19)، إذ لا ينبغي للنص الروائي أن يكون أمينا تماما في نقل الوقائع عندها لن يمتلك قيمة دلالية، أما وهو على هذه الشاكلة فإنه يكتسب خصوصية عندما يكمل الروائي ما يعدّه ناقصا فيعززه بالإيديولجية السياسية التي ينتمي إليها·
الطريقة الثالثة: عرض المعلومة التاريخية من خلال انعكاسها على تصرفات الناس وسلوكياتهم وظهورها في حوارهم· وتعدّ هذه الطريقة من أكثر الطرق انسيابية في عرض المعلومة، حيث الشخصيات هي من تتأثر وتحكم وتعاني وتفرح دون تدخل سارد يوقف الحديث عند موضع ليسرد تاريخياً ما حان دوره ثم يستأنف· ولكن هذه الطريقة تمتلك القدرة على تفعيل هذين الخطابين: الروائي والفني جنباً إلى جنب فتتحقق الموازنة بينهما·
ومن أمثلة ذلك ما ورد إشارة عاجلة ترد بين ثنايا السرد المتخيّل في رواية القرمية: البدو الذين تعوّدوا عراك الحياة، وشالوا وحطّوا مثل طيور مهاجرة، يدركون أي فزع يثورون إذا ما أقبلوا بخيلهم نحو القرى·· ويدركون أي غنيمة يمكنهم الحصول عليها من المزارعين الذين حصدوا زرعهم وعمّروا مخازنهم بمؤونتهم، لا يخافون إلا غزوات البدو وزيارات الجباة الأتراك التي تتركهم جوعى·(20)· إن غزوات البدو وزيارة الجباة الأتراك هي حقيقة تاريخية تحيق بأهل القرى في مطلع القرن العشرين في الأردن آنذاك تعكس موقفا سياسيا واضحا من ممارسات الأتراك آنذاك وكأن الأمر برمته تسويغ لفكرة الثورة، وهذه الحقيقة التي تتحكم بحياة فلاحي القرى جاءت ضمن أسلوب سردي أكثر منه تاريخيا، إذ اتسمت هذه المعلومة التاريخية بالعفوية والتناسب التام مع مجريات التطور السردي، وتعد هذه الطريقة من أكثر الطرق تلاؤما مع فنية السرد·
وفي سياق تاريخي آخر يرصد زياد قاسم في الزوبعة تأثر المسار التخيلي بالتاريخي، أي تأثر الشخصيات المتخيلة بمؤثرات تاريخية: ورغم أن أبا جبران كان يتلقى مقالات أنطون سعادة بلهفة ويعطيها أولوية النشر دون تحريف أو بتر أو تعديل، إلا أنه في نقاشاته مع سيف كان يبدي عقلانية وواقعية بعيدة عن الانفعال تهدئ من سيف وتلين من صلابة مواقفه، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالمفتي: حكيه مظبوط يا سيد سيف· مربط الفرس عند الإنجليز·