كتاب " الهجاء عند جرير والفرزدق " ، تأليف د. خالد يوسف ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب الهجاء عند جرير والفرزدق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الهجاء عند جرير والفرزدق
خصال الهجّاء
الهجّاء ناقد عيّاب، يترصّد أخطاء النّاس وزلاّتهم، ويتربّص بهم لكشف مثالبهم ونشر معايبهم، لا يهتدي لنفسه إلاّ بالقدر الذي يدفعه إليه حقده وسخطه، لا شأن له بحماس البشر وفضائلهم، فهي لا تحّرك فيه وتراً من شعور، يدفعه إلى ذلك مركّب نقص فيه أو عقدة نفسيّة يحاول أن يغّطيها بصبّ جام غضبه على المجتمع والحياة لمعاناته منهما.
و(دقّة الملاحظة) من أولويّات شروط النبّوغ عند الهجّائين، فللهجّاء النّابغ عين ثاقبة تراقب عيوب النّاس، فيضرب على الوتر الحسّاس المؤلم، مؤدّياً فكرته إداء غير مباشر، ملحّاً في طلبها بلباقة. فهذا جرير يهجو (تيماً) بالجبن، ملمّحاً غير مصرّح بفرارهم من المعمعة، فيقول:
ترى الأبطال قد كلموا وتيم
صحيحو الجلد من أثر الكلوم (8)
مع كلّ هذا ، الهجّاء ماهر في التماس وجوه الشّبه بين هجائه وبين الصّور القبيحة التي تبعث على الإستهزاء والضّحك، نتيجة وضعها في قالب تمزج فيه الموهبة مع عبقريّة الحسّ اللّفظي. فأنظر إلى بيت جرير في أمّ الأخطل كيف يضحكك قبل أن تفهم معناه، فإذا عاينته لم تجد فيه المعنى العميق أو الفكر المبتدع. فهي تأكل صغار الخنازير والفول فتضطرب في أمعائها...
تضغو الخنانيصُ والفولُ الذي أكلت
في حاويات رَدُوم الليل مِجْعار(9)
فالهجّاء لا مكان عنده للفكرة العميقة التي تجهده، وتذهب بشطر كبير من قوّة تأثيره، إنّما عماده التّأثير السّريع والرّؤيا الواضحة بأسلوب بسيط لا أثر فيه للتّعقيد. فهو يستمدّ صوره عن الواقع لا من الخيال. من هنا، كانت الواقعيّة البعيدة عن الإسراف في الصّناعة، والقائمة على التّجربة ودقّة الملاحظة من أبرز خلال الهجّاء النّابغ.
ولعّل تخّلف الأخطل عن صنويه - جرير والفرزدق – في فنّ الهجاء قد تأتّى من تجويده الشّعر ومذهبه به مذهب الفخامة والتّسامي. فهو لم يستمّد هجاءه من خصمه ولا من احتكاكه بالنّاس، ولكنّه تناوله من فنّه الشّعري، بخلاف جرير الذي يعتمد على الواقع، وعلى دقّة الملاحظة حين يرميه بالبخل، فيقول:
والتّغلبيّ إذا تنحنح للقرى حكّ إسته وتمثّل الأمثالا(10)
فأنت أمام هذا البيت، تعيش الواقع، وترى بأمّ عينك ذاك البخيل وقد تولّته الحيرة وتملّكه الإضطراب حين ينزل به ضيف، فيكثر من الحركات والتّنحنح وضرب الأمثال ليصرفه دون قرى.