أنت هنا

قراءة كتاب وادي الصفصافة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وادي الصفصافة

وادي الصفصافة

كتاب " وادي الصفصافة " ، تأليف أحمد الطراونة ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

كانت عينا «حشمت» تتفقد أروقة البيت المعتق بالحزن والفقد، ترقب خيالات الأرواح التي تتدلى من شقوق السقف، تكاد، رغم شعورها العميق بالغربة، تتحسّس الأشياء من حولها. تجزم أنها غير مرغوب فيها، لم يكن هذا ما وعدها به الحكيم. تتسلل خفية إلى خارج البيت لتهرب إلى مصطبة واسعة، ترامت أطرافها بحجم تينة وارفة الظلال، تكاد كل ورقة من أوراقها تحكي قصة من قصص السمّار. اقتربت منها، اتكأت على جذعها الغائر في الأرض، لامسته كطفل رضيع يداعب لحية شيخ طاعن في السن، تسللت ببصرها ودهشتها إلى السماء. من بين جذوع الشجرة المترامية الأطراف، أجهزت أبراج الليل التي دنت فتدلت من بين جذوع التينة على ما تبقى لديها من شعور بالأمان ثم تمتمت: «ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وما هذه الشياطين التي تطل برؤوسها من هذه الشجرة الغريبة؟».

نسمات الهواء البارد تدغدغ ما انكشف من جسدها، وتتراقص الجذوع والأوراق في لغة مخيفة تشدّها إلى البيت، تدخل مسرعة وتغلق خلفها الباب الخشبي الذي فجّ بصريره صمت الغرفة الحزين، وأعاد العجوز الغافية إلى صحوها:

«اسم الله عليكي، لا تخافي، تعالي في حضني يا بنتي».

لم تفهم «حشمت» ما قالته العجوز وراح جسدها يتراقص وسط كومة من الوسائد، وعيناها ترقبان بذعر فناء الدار، وما تناثر على وجه العجوز من خصلات الشيب الأبيض.

قالت العجوز: «سمّي على مرتك واقرأ عليها يا ابني، فاتت مرعوبة، ترى الناس ما بتترك المركب ساير، الله يكفيك ويكفيها شر العين».

* * *

سجى الليل، وعادت طيور الأرواح إلى وكناتها، واسترسل السبات في طغيانه على الوجود، فيما أحمد ما يزال يُساهر الصمت الذي خيم على القرية.

ذكريات تفغر فاها. تمد ألسنتها كشياطين فوق رأس أحمد الذي يتأرجح نظره بين أمه وزوجته. تقضم ليله خفافيش الظلام، ووسوسات ثقيلة لم يستطع أن يرفعها عن صدره.

الماضي شيء ثقيل، وليس أثقل منه سوى الدم، والأسئلة التي تراوح في الشقوق دون إجابات:

«هذا الصمت يريبني، ويخيفني أكثر مما يبعث الطمأنينة في نفسي».

جال بنظره في البيت. كان فضوله يحمله إلى شيء ما بانتظاره في البيت الذي تركه قبل أكثر من عشر سنوات، وما يزال على حاله، غير أنّ كثيراً من الغبار والفوضى تخفي معالمه.

كل شيء كان يعيده إلى طفولته الأولى، ثمة أشياء كان يشعر أنها مثل تفاحة آدم، محرمة على يديه الصغيرتين، وجسمه الناحل:

«لما تكبر بتعرف كل شيء»، كانت تقول له أمه وهو صغير، لكن لماذا تقرع هذه الكلمات في رأسه الآن،

أين البداية وأين النهاية؟

موت وميلاد.. حلقات مفرغة تقود إحداها إلى الأخرى، لا تحمل جديداً، فقط تعيد تذكيرنا بذاتها.

في القرية كل الأشياء تقاس بالأرض، وتراب الأرض شيء مقدَّس، يحمل أجساد أحبابنا، ويستر جوعنا، ويغطي بغباره ذكرياتنا.

تسلل أحمد نحو الصندوق، ولم يكن يعلم أنه سيدخل في مصيدة الذكرى. ارتعشت يده وهي تمسح الغبار:

«الدنيا صندوق كبير بتخبّي في صدرها الغيب، والصناديق بتعطل الحياة حتى لو كانت بتحفظ ذكريات الحبايب».

تلامس أصابعه غطاء الصندوق، وكأنه يلامس جسد ميت، رائحة المكان ثقيلة، وهذه الأوراق الصفراء أحكمت في صُرر قماشية كالأكفان. مسجّاة في حفرة خشبية لم تغادر مكانها منذ زمن بعيد. غبار كريه، ورائحة بارود متعفنة.

الصفحات