كتاب " وادي الصفصافة " ، تأليف أحمد الطراونة ، والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب وادي الصفصافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

وادي الصفصافة
صوت آخر: «الناس ما هي قادرة تلاقي الزاد، والغنم أعجفت([5])، الله يعود على البلاد».
صوت: «يا عمي من بكرة بلغوا الرعيان يَرْدوا على البيار الشمالية ميِّتها بعدها فيها، وخلّيهم يسرحوا في الغنم هناك، البلاد فيها تالي رعي، ما ظلّ علف في المخازن، والشعير ودُّه نيرات عصملي».
صوت آخر: «ديرو بالكو تخلطو غنمكو مع غنم العرب الغربية، ترى طَابْها إجعام([6])، والموت بوكل فيها أكل».
لم ينقطع الحديث عن الماء والعلف، وأوغلت ظلمة الليل، الذي لم يكن يشق سماءه سوى بعض شعلات من نار كأنها مراجيع وشم على الأبواب تصدّ الهوام، ورماد مواقد تعيد حياة هجيمها بعض هبات الهواء الجاف.
تناهى صوت من زاوية البيت. لم يُعرف صاحبه، كان يلفّ رأسه بمنديل. عيناه تشقان ظلمة المكان كجمرتين، تخفت تارة وتضـيء تارة أخرى، وأنف يزيد عن حاجة الإنسان، وشاربان خرجا عن طوعه، تسلّل في حديثه كأفعى:
«يا خوك ما نمت امبارح، شفت حلوم شينة، الله لا يوريك، لاح لي رحمة جدي في المنام، كان يحمل بيده حصان خشب إزغير، وراكب على سيف طويل، طالع على ظهره شعر غزير، والسيف بدخل في جسده، شقه نصّين، وبنزل منه ميّة حمرا ما بتصل البلاد، كان واقف على تمثال من طينة سودا، وبعدين إطْلع السيف من جسده وناداني على طول حسّه: «يا وليدي، خذ هالسيف واذبح هالطينة النجسة، خليني ارتاح».
زاد من وحشة الصمت الذي ران على الليل صوتُ راع ٍ أفزع الساهرين بالصياح: «يا عرب.. يا عرب، غنم أبو محمد هجّت من المراح والذيب سطحها».
لا يكاد القوم يميّزون مكان الصوت، ولا صاحبه، خرجوا كأنهم سهام فارقت قوسها، حفاة، يحملون بأيديهم عصيّاً وشعاباً باتجاه مراح «أبو محمد».
تعالت أصوات العرب، زفرات الأنفاس، ودقات القلوب، التي تكاد تدق الخوف في قلب الليل.
قال أحد الرعيان: «الذيب اتغطّى في الليل وشرد، ما قدرنا نمسكه..».
وقال آخر وهو يلهث: «لولا العرب فزعت كان أكل الغنم والرعيان، نَفَس الرجال بحييّ الرجال..».
صوت آخر يندسّ بين الجموع: «قولوا للرعيان يستطلعوا المكان».
صوت آخر: «سطّح الذيب شاة وذبحها، وعقر الثانية لكنها ما ماتت».
تحلّق الرجال حول الأطفال والنساء، وتقاطر القوم راجعين إلى بيت أبي محمد...
* * *
كانت العرب تتناقل الحديث بهمس حول مهاجمة الذئب لغنمه في الظلام...
- ما بقطع فرض، وحج بيت الله، وما بِعْدِي([7]) الذيب إلا على غنمه.. الله أكبر..
- راعي فَراسَة([8])، وبعرف في الرجال، لكن العتمة ما بتفرق، والذياب ما بتميّز بين شاة الطيّب وشاة الردي.
- عسى أن تكرهوا شيئاً.. لقد أراد الله به خيراً من حيث لا يعلم.
أبو محمد كبيرهم، وحكيمهم، خامس أخوته والوحيد الذي بقي منهم على قيد الحياة، بيته شق([9]) العرب ويعتبر نفسه أبا الجميع، صدره مخزن أسرار، وقد شارك في شبابه بصدّ العديد من الغزوات، وحضر وشاهد مقتل سبعة من أبناء عشيرته في غارة على إحدى أطراف مضاربهم، دائم الحزن يبدي ما لا يخفي، وما إن يكون وحيداً حتى يشرد في حزن عميق.. يتهامس الرجال في تعداد مناقبه.
- الأتراك، هُموّ البلاء، بعد ما احتلو الكرك هدوا حيله، ذبحوه.
- السلطان عبد الحميد اشترى النفوس بصُرر الفلوس، بسّ أبو محمد نفسه عزيزة.. عمره ما مدّ يده لواحد.
- الأتراك طخوه في رجله يوم شارك في فزعة الكركية للحمايدة.
* * *