كتاب "طيور الرغبة" ، تأليف محمد الحجيري ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، ومما جا
أنت هنا
قراءة كتاب طيور الرغبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طوال الطريق، يروي أبو أحمد سيرته في الحرب اللبنانية، سيرته أشبه بحكايات لا تنتهي. يروي الحكاية ليقول إن الأعمار بيد الله. وفي لحظة قال: "الله الشهيد أنا انكتب لي عمر جديد يوم "السبت الأسود". كان بيتي في منطقة الطريق الجديدة في بيروت وأعمل سائقاً في شركة في منطقة ساحة ساسين الأشرفية، لرجل من حزب الكتائب اسمه جورج خوند. لم أكن أعلم ما يجري في شوارع المنطقة الشرقية حين كنت أقود سيارة مرسيدس 190 في إنطلياس في مشوار عمل. وفي طريق العودة صادفت راهبة تنتظر سيارة تاكسي. بعدما قطعت عنها عشرات الأمتار، عدت وطلبتُ منها أن تصعد لأوصلها في طريقي وأكون فاعل خير، وكان لي أن شاهدت حواجز الذبح على الهوية. عشرات الجثث على الأرض، وعشرات يقفون وجوههم إلى الجدران... لم يوقفني المسلحون، كانوا يظنون أني مسيحي لأن الراهبة إلى جانبـي في السيارة، لقد كُتب لي عمر جديد. حين طلبت مني الراهبة التوقف قبل منطقة الدورة، رحت اتوسل إليها أن تبقى حتى أصل إلى الأشرفية. قالت لي: "الدنيا بألف خير ليش أنت خايف؟" هنا صرّحت عن هويتي، قلت: "يا ماسير أنا من المنطقة الغربية. أرجو أن تبقي معي حتى أصل إلى مكان عملي، وأؤمن لك سيارة تعيدك إلى بيتك"... بعد رجاء ورجاء بقيت معي، وصلت إلى ساسين وجدت مسيو جورج صاحب الشركة، ينتظرني ويضرب على رأسه خوفاً. ظنّ أني قتلت كما الآخرين، وطلب من أحد الموظفين أن يأتي لي ببطاقة من حزب الكتائب تؤمن لي التنقل في المنطقة الشرقية من بيروت، هكذا كنت مسلماً وأحمل بطاقة كتائبيّ"...
هل روى أبو أحمد سيرة الحرب أم روي لأنه يحب الحكايات، كان يروي لأنه يريد أن يصل؟ اذ توقف عن الكلام يضجر ويشعر بالنعاس. السبت الأسود رواية أخرى، هكذا تقول الوثائق، أبو أحمد كان يكذب لأنه يحب أن يروي...
الطريق طويلة إلى بيروت، رائحة "الكوليه" تنبعث من العجلات، تمرّ السيارة في طريق متعرجة في منطقة جبل لبنان، الأشجار الغضة، والجبال كصورة فوتوغرافية، عدا صورة الخراب التي خلفتها القذائف. لا أنظر طويلاً إلى الخارج، أصاب بالدوار. عند حاجز لميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي تقف السيارة، يتقدم الحارس حاملاً بندقية كلاشين، وقبل أن ينظر السائق إليه يسأله:
- "قاطع بطاقة مرور؟!"
يمد السائق يده إلى التابلوه، يظهر البطاقة.
يوميء له الحارس بالرحيل.
تمشي السيارة ببطء، السائق يقفل التابلوه. ثم يمضي قائلاً:
- "كل شهر بدهم ألف ليرة".
لم أفهم ماذا يجري، لم اسأله!!
كنت في عالم آخر، كل ما يجري حولي أجهله، أو لا أعرف أسراره، من الجبال إلى الناس والطرقات...
صفعة المساعد جميل
تملكني الخوف حين انعطفت سيارة الأجرة عند مستديرة خلدة باتجاه بيروت، ربما حكايات السائق مع الحرب جعلتني أشعر بالقلق، لم أعتد التاكسي كمنبر، تحت الجسر قال السائق:
- "إنـزل هنا، وطلاع بسيارة رايحة ع صيدا".
شعرت أني أمام امتحان في عالم أجهله، مشيت خطوات قليلة، شعرت بعصافير بطني تزقزق، فكرت في تناول سندوتش، لم أجد مطعماً. ماذا سآكل اليوم خارج المنـزل العائلي؟ لم أتناول وجبات المطاعم من قبل! في خلدة كل شيء يبدو غريباً وموحشاً. أسمع صوت الموج ولا أرى البحر. تحت الجسر عناصر من الجيش السوري من ذوي القسمات القاسية، يقفون داخل دشمة كالحة، وزعوا صور حافظ الأسد على الزوايا وطرشوا البراميل بعلم البعث والعلم السوري، وكتبوا على الجدران عبارة "إلى الأبد...". المشهد هذا يتكرر في كل الحواجز ومقار المخابرات. كأن لا شيء يفعله عناصر الاستخبارات سوى تمجيد القائد بكل الوسائل. ثمة عنصر يحمل "الكلاشين" ويشير بيده بعد التدقيق بوجوه السائقين. مشهد شبحيّ في خلدة، شيء من ذاكرة بلا ملامح، باعة خضر وسيارات أجرة وناس يذهبون في كل الاتجاهات.
حواجز القوات السورية من عرش ايل إلى خلدة نخرت مخيّلتي، باتت كغشاوة سوداء على عينيّ. مشهدها يتكرّر كانبعاث الكربون من السيارات، عند كل منعطف ضيعة وعند كل مفترق أو ساحة، إذ أتذكر الإطارات المطاطية على جوانب الطرق، والوجوه الكالحة الخالية من الابتسامات ينتابني الصمت وأشتاق إلى غابة ألجأ إليها. لا يحضر شبح الجيش السوري في ذاكرتي لأنّه كان يسيطر على لبنان، بل لأني تلقيت صفعة على خدي الأيسر من المساعد جميل. لقد أوقفني عناصر من حاجز للقوات السورية في خرّاج بلدتي عندما كنت عائداً وابن عمي وليد من الكرم وبحوزتنا سلّة عنب أبيض. العسكري الذي يحمل البندقية الروسية، أمرنا بالسير أمامه من كرم العنب إلى الحاجز عن طرف الضيعة... التهمة مراقبة الطريق لمرور المهربين إلى سوريا. تجمّع الجنود حولنا كما لو أنهم أسروا قائداً أو عميلاً نوعياً. يرتسم الخوف على وجهي. أفكر في الذنب الذي اقترفته، لا أجد جواباً. أتخيل الدولاب، الدولاب رديف "الفلقة" لدى حواجز الجيش السوري، أتذكر عبارة "عزموه المخابرات على فنجان قهوة، من العزيمة يعود بقدمين متورمتين"، بعض الذين زاروا مراكز المخابرات عادوا موتى.
يقول الجنود:
"هلق بيجي المساعد جميل تنشوف شو بنعمل فيكن"...
من لحظة وصوله يقول بصوت فاجر:
- "مع مين عم تهربو ولااااه"؟
"منا عم نهرب شيء، كنا نحوش عنب؟!" نجيب بشيء من الحيرة، قبل أن أكمل كلامي تلقيت صفعة على خدي ما تزال تطن أذني حتى الآن، صفعني بحقده على خدي الأيسر.
- "اسكت ولااااه.... حيوان، عم تكذب كمان"...
لم أفتح فمي، وضعت يدي على خدي وكادت دموعي أن تكرج.
وقال عسكري:
- "بدكن تنامو بالقاووش، من حظكن أنو معكن سلة عنب للعشا".
حتى وليد ابن عمي كان يتهيأ للضحك في لحظة الصفعة، انتبه إلى أنه قد يتلقى مثلها... الخوف تملّكني...
- "دقيقة ما بدي شوف خلقتكن، نقلعو"... قال المساعد جميل...


