كتاب " عَمكا " ، تأليف سعدي المالح ، والذي صدر عن دار الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من اجواء الرواية
أنت هنا
قراءة كتاب عَمكا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كأنه كان ينتظر مثل هذا الكلام لكي يجعله يبوح بما في صدره. فقبل دعوته وقال له:"لماذا تتعب نفسك بشأن ميت لا رجاء في قيامته؟ إن الوثنية قتلتني وأصبحتُ صريع الشيطان إذ أمضيتُ حياتي كلها في تقديم القرابين الباطلة".
ولما سَمِع الأسقف بِرسمَيّا هذه الأقوال، وقع على قدميه وقال له:"إن للتائبين رجاء وللجرحى شفاء. وأنا أضمن لك مراحم المسيح الذي يغفر لك كل ما أخطأت به إليه".
وبعد يوم، نـزل ليلاً عند برسميا. فاستقبلته الكنيسة كلها بابتهاج. ومُنِح العماد وأعترفَ بالآب والابن والروح القدس. ولما شاع في المدينة كلها خبر نـزوله إلى الكنيسة، استحوذ الهلع على كثيرين، فقاموا وزاروه، فوجدوه متوشحاً زي المسيحيين. فاقتدى به جمع غفير من الرجال والنساء. وكان بينهم نابو وحَفْسي وبِركَلْبا من أعيان المدينة. ولما سمع لوسانيا حاكم المدينة ما أقدم عليه، أرسل رجالاً اختطفوه ليلاً من الكنيسة. فجلس الحاكم ليسمعه ويدينه في وسط المدينة، عند الموضع الذي فيه كان يقرِّب الذبائح للآلهة. ولما أصرّ أمام الحاكم على البقاء على دينه الجديد هدّده بالتعذيب والقتل فلم يهتم بالأمر، عندئذ أمر الحاكم بأن يُسحَب خارج مدينة الملوك عاجلاً، وأن يُنشَر بمنشار من خشب، وحينما يشرف على الموت، يُقطع رأسه بحد السيف. فمات شهيدا.
قال الأبن بصوت حزين:"غريب إنهما شخصيتان متناقضتان لا تشبه أحداهما الأخرى! ما الذي جعله يردِّد دائما اسميهما؟
أجاب القس معترضا:"أعتقد أنّ ثمة صلةً بينهما، فهما إلَه وقدّيس للشعب نفسه. ربما عندما تقرأ هذه الأوراق التي سجّلتها عن هلوساته ستتكشف لك الأمور جيدا".
كان القس قد احتار في أمر الهلوسات السردية المسطّرة في دفتره وقد احتوت على ما يشبه الأسرار أحياناً، وربما يخشى من أن تُذاع بين الناس وتقود إلى مشاكل اجتماعية أو سياسية هو في غنى عنها، فكّر أول الأمر في أن يتخلّص منها بحرقها لكنه سرعان ما عدل عن هذه الفكرة حين تذكّر أنها تنطوي على معلوماتٍ بالغة الأهمية عن بلدته ومسقط رأسه عنكاوا، وأدرك بأنّها يجب أن تُنشر لتتعرف الأجيال الجديدة على الكثير الذي لا تعرفه عن تاريخها، فضلاً عمّا تحمله من أساطير وحكايات وقصص وقضايا وأفكار طريفة لا بدّ أن تخرج إلى النور بوسيلة ما، غير أنه عدل عن هذه الفكرة مرة أخرى لأنّ بعض الأسرار التي تحتويها قد تثير حفيظة بعض الناس، ولاسيما أنّ الكثير من الشخصيات والأمكنة والأزمنة والحكايات العنكاوية كانت فيما يبدو حقيقية.
ظلّ يتأمل في هذه الورطة التي أوقع نفسه فيها، كان حسبه- لولا هذه الأوراق اللعينة- أن يسمع كلّ شيء ويعرف ما يريد من هلوسات الميت من دون تسجيلها، وكان سيذهب الكلام أدراج الرياح ولا تكون ثمة مشكلة، ولهذا قرر أخيراً أن يودعها لدى ابنه الذي سينقذه من هذه الورطة، فالتفت إليه ودسّ الدفتر بين يديه طالباً منه أن يتصرف به من دون أن يخبره عن مصيره، وهو واثق من أنه سينشر ما في داخله في يوم ما حين يعي أهمية ذلك أو خطورته.
وحدد له على الفور موعدا سريعا لتعميد ولده.