كتاب " عَمكا " ، تأليف سعدي المالح ، والذي صدر عن دار الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من اجواء الرواية
أنت هنا
قراءة كتاب عَمكا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ويشهد سفر التكوين (10:2-3) على استعمال سكان بابل اللَّبِن إذ يشير إلى أن العبرانيين "فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا. فَكَانَ لَهُمُ اللّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ". والبيوت المبنية من الطين كانت أدفأ شتاء وأبرد صيفا لأن جدرانها كانت عريضة بما يكفي لعدم السماح بدخول حرارة الشمس صيفا وبرودة الجو شتاء.
وكُنْتَ تجد في هذه الساحة أيضا مئات من سيقان أشجار الحور الطويلة الباسقة التي تستعمل عادة لتسقيف البيوت، فتُمَدَّد بعيدة عن بعضها البعض بحدود خطوة على عرض السقف، ثم تُرْصَف فوقها فروع أشجار أرفع منها لتغطى هذه وتلك بحصران من الخوص وبعض النباتات اليابسة، بعد ذلك تُكسى بطبقة من الطين المجبول بالتبن. لكن كل هذا لا يمنع من أن يتسرب ماء المطر إلى البيت عندما تهمل إدامة السقوف والجدران، ولهذا تجد فوق كل سقف محدلة حجرية يحدل بها السطح قبل موسم سقوط الأمطار. تصوروا لآلاف السنين لم تتغير طريقة البناء هذه إلا في النصف الثاني من القرن العشرين عندما دخل الطابوق والإسمنت والحديد صناعة البناء! كان قدماء العراقيين يصنعون بيوتهم في البداية من الحلفاء، وأصبحت تلك البيوت مضربا للمثل في بابل القديمة، إذ أن مثلا بابليا يقول:"وهل يدرأ كوخ الحلفاء الزمهرير؟" ثم استخدموا القصب، وكانت طريقة البناء تبدأ من حزم سيقان القصب الطويلة وتثبيتها في الأرض على مسافات منتظمة في خط مستقيم. ويقابل هذا الخط المركزي عند أي من جانبيه خطان آخران من القصب الذي يثبت بشكل قوي في الأرض ثم تُحنى رؤوسه لتشكل ما يشبه النفق، ومن ثمّ تربط بالخط المركزي ويشد بامتداد عمود يؤلف سقف المبنى. وتكون نتيجة ذلك بناء مأوى ذي سقف معقود. ويمكن مد هذا المأوى إلى أية مسافة مطلوبة لكن عرضه يحدد بارتفاع القصب الذي ينمو في تلك المنطقة. ولا تزال هذه الطريقة في البناء مستخدمة في بعض مناطق الجنوب العراقي.
بعد ذلك تعلموا صناعة اللّبِن وشيّدوا باللّبِن زقوراتهم وأبراجهم وقصورهم، ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا فيما بعد يُفَخّرون هذا اللّبِن ويشوونه بالنار ليبقى قويا ويدوم سنوات طويلة. جميع بيوت عنكاوا كانت مبنية من الطين ومعظم غرفها تفتح على بعضها البعض إما بأبواب أو بفتحات، بيتان فقط في درگا كانا مبنيين باللّبِن المشوي، بيت عمي يوسف بائع العرق المعروف في أربل وبيت صليوا أوراها أحد أقدم المعلمين في القرية، لكن كليهما انتقلا إلى مساكن جمعية الخالدية التي شيدت في عام 1957 في مدخل عنكاوا من الطابوق والطين.
ونظرا لوجود الأخشاب واللّبِن في الساحة هذه ليس غريبا أن تصبح أيضا مركزا لتجمع عمال البناء وغيرهم فيأتي أصحاب العمل أو البناؤون فيختارون عمالهم منذ المساء ليبدأوا في اليوم الثاني ومنذ الصباح الباكر بنقل المواد أو البدء بالبناء. وكانت الساحة في أشهُر الحصاد تصبح أيضا مركزا لتجمع الحاصدين ونَقَلة الحصيد من الحقول إلى البيادر.