أنت هنا

قراءة كتاب عَمكا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عَمكا

عَمكا

كتاب " عَمكا " ، تأليف سعدي المالح ، والذي صدر عن دار الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ من اجواء الرواية

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 5

الفصل الأول :دَرْگا

كانت محلتنا ملمومة، صغيرة جدا، عبارة عن زقاق قصير، اصطفت على جانبيه، على غير انتظام، عدة بيوت طينية متكئة بأكتافها على بعضها البعض، متلاصقة، يسده بيت كبير يحرسه كلب ضخم دائم النباح كأنه يعلن أن هنا ينتهي العالم. وكان هذا الزقاق يصعد من ساحة (دَرْگا) باتجاه الغرب، بينما يتفرع منه يميناً، مقابل بيتنا بالضبط، زقاق آخر أصغر منه وأقصر، تصطف ستة بيوت فقط على جانبيه، ويلقى حتفه عند المقبرة القديمة (قصرا). لكن هذا الدرب الضيق القصير كان يستقبل أيضا من محلة (درگا)، كل صباح ومساء، المصلين الذاهبين إلى الكنيسة المحاذية للمقبرة والقادمين منها، وخاصة العجائز المدمدمات بأدعية وصلوات متواصلة في ورع ورهبة وهن خارجات من الكنيسة وحتى بلوغهن بيوتهن، فيما عدا ذلك لا يدخله أحد غريب في النهار، فنحتله نحن الصغار ليصبح ملعبا لكل ما يخطر على بال من ألعاب الطفولة. أما في الليل فيأوي الناس إلى بيوتهم التي تنفتح على بعضها البعض عبر كوّات خلفية أو جانبية، بينما يخيم في الخارج، على المحلة كلها، ظلام دامس يحولها إلى مستعمرة للكلاب والقطط السائبة والجن والأشباح والموتى الراقدين على بعد لا يزيد عن رمية عصا.

كانت ساحة درگا بالنسبة لأهل القرية مركزا للتجارة والأعمال والترفيه، أما بالنسبة لي فكانت قلب العالم كله، مثلما كانت بابل أو نِينْوَا محورا للعالم بالنسبة للبابليين أو الآشوريين، ولهذا صوروا الثور المجنح، لاماسو، رمز قوتهم وعظمتهم، بخمس قوائم، الأربع منها هي الأطراف في الاتجاهات الأربع والوسطى، الخامسة، هي أنفسهم. لأنهم كانوا يعتقدون أنهم يعيشون في مركز العالم، ويعدّون أنفسهم مِحْوره، هكذا كانت درگا؛ مركز القرية ومحورها وقلبها النابض، ساحة صغيرة تتوسط حيّاً شعبياً، تتفرع منها أربعة أزقة من جهات أربع؛ شرقاً زقاق قصير يهبط نحو الساقية وينتهي بها بعد نحو ثلاثمائة خطوة، وغرباً يصعد زقاق أقصر منه مسدود ينتهي ببيت آل عزوز حيث يقع بيتنا، لكن فرعا ضيقا وقصيرا يلتف منه يمينا نحو الكنيسة. شمالا يسير زقاق منبسط باتجاه البيادر يتفرع منه درب آخر نحو زقاق الحائكين، وجنوبا زقاق مسدود آخر، ضيق جداً، قد يبلغ طوله مائتي خطوة، يلتوي ليلتف من وراء مقهى العم گوگا (گورگيس)، وهو زقاق معظم بيوته من صانعي العرق المحلي القجغ. كان العالم بالنسبة لي ينتهي عند حافات هذه الأزقة الأربعة وفرعيها، لأن درگا كانت معزولة عن بقية عنكاوا من طرفيها الغربـي والجنوبـي ومفتوحة على البيادر والحقول وقُصلان الشعير(جمع قصيل، وهو حقل قريب من القرية ترعى فيه الخرفان والأبقار وهو أخضر) والأراضي الديم من الشمال والشرق. على الرغم من ذلك كانت البيوت تلتصق ببعضها البعض عبر حيطانها وأسطحها الطينية، فتنفتح على بعضها البعض عبر كوات صغيرة وكبيرة من هذه الحيطان ومن على الأسطح المتلاصقة إذ يتبادل الناس من خلالها الحاجات الضرورية والرسائل القصيرة بواسطة النداءات. كان من السهل أن تنتقل عبر السطح إلى عدة بيوت متلاصقة من الخلف وتهبط في باحاتها بواسطة الدرج مختصرا مسافة كان لابد أن تلتف حول نصف عنكاوا لتقطعها. وهذا ما خلق للقرية عالمان:خارجي مفتوح على الفضاء وداخلي سري منغلق على ذاته عبر الأزقة المغلقة.

لكن في أوائل الستينيات تغير كل شيء، اختلط هذان العالمان ببعضهما البعض، لا سيما بعد أن شُقّ شارع ليضرب درگا في الخاصرة بانتهائه عند حافة ساحتها ليفتحها نحو الغرب من جهة والجنوب من جهة ثانية، وليعري عالمها السري ويوصله ببقية أطراف القرية أخيرا.

كانت علامات حمراء رسمت، منذ سنوات، على أسطح بيوت كثيرة وجدرانها على شكل خط مستقيم من غرب القرية إلى شرقها تحدد موقع شارع جديد مرشح للفتح. وكان بعض تلك العلامات الحمراء قد اندثر أو زال بمرور الأيام، حتى أن الناس الذين وقعت بيوتهم على خط الشارع الجديد اطمأنوا نوعاً ما من أن المشروع بات منسياً ولن يُنَفّذ.

لكن يوم الرابع عشر من تموز 1958 الذي قلب كل الأمور على عقب، وهز العراق كله، بكل تأثيراته فيما بعد، سلبا وإيجابا، أعاد الحياة إلى ذلك المشروع شبه الميت. فجاء المساحون بعد حوالي سنة، يعيدون رسم علاماتهم الحمراء على الحيطان الطينية القديمة وينشرون الذعر في قلوب أصحاب البيوت التي سيقطعها الشارع الموعود وصولا إلى ساحة درگا.

الصفحات