كتاب "علي فودة..
أنت هنا
قراءة كتاب علي فودة.. شاعر الثورة والحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
احتفاء جماعي بتجربة شعرية مشاكسة
فتحت الحداثة الشعرية في المشهد الشعري العربي، خلال السبعينيات من القرن الماضي، آفاقاً شكَّل فيها سؤال الهوية الضاغط من برزح العروبة المحضة أطيافاً تواشجت مع حركة الحداثة في الشعر العربي، عبر النزوع إلى صياغة جديدة بلغ منها هدير الخطاب الآيدلوجي ما كان كافياً لتذويب الإبداع بتآكل راهنية الأحداث وأفول أقطابها الرافدة.
وتحاول هذه القراءة لأشعار علي فودة ورواياته أن تستجلي أهمية الشاعر في الواقع الأدبي العربي المعاصر،كما أنها تحاول أن تقدّمه إلى جيلٍ جديد من القرّاء، وأن تتحرر من سطوة الأحكام المسبقة التي انصبّت، في فترةٍ ما، بغزارة على أشعاره ورواياته.
تقع تجربة علي فودة الشعرية في منطقة جمالية خاصة؛ فلطالما كانت مدار أطروحات نقدية في فحص الفضاء الشعري لصاحب «فلسطيني كحدّ السيف»، و«قصائد من عيون امرأة»، و«عواء الذئب»، و«الغجري»، و«منشورات سرية للعشب».
علي فودة شاعر الشارع والتسكع في أزقّة الكلمات التي جعلها تضاريس المدينة التي عاش فيها بدايات تجربته الإبداعية. وعمّان، بجبالها وأزقتها وشوارعها الخلفية، هي مفردته اللغوية التي صاغ منها إبداعاته الشعرية، واحتفى بأمكنتها؛ فكانت عنوان ترحاله بين جبالها السبع التي احتضنت حكاياه، وعشقه المستور بين خفايا الأشرفيّة ووسط البلد.
علي فودة هو ذلك الشاعر الذي اختلف حوله الكثير من الأدباء؛ فمنهم من عدَّهُ شاعراً يبشِّرُ بميلاد مبدعٍ يفجرُّ صمتَ المدينة، ويحرق خمولها، بينما رآهُ آخرون متزيّداً لا أكثر ولا أقل؛ وفي كلتا الحالتين فقد كان علي فودة بركاناً متفجراً، سريعَ الغضب؛ فمواقفه تُعبِّر عمّا في داخله، غير آبهٍ بردود الفعل التي تأتيه من هذا النهر الهادر.
تجوّل الشاعرُ في معالم عمّان، فكان مأمنُ أسراره «أبو علي» صاحب كشك الكتب الأشهر وسط عمان. تلاقيا في أكثر من قصة؛ فبقيت حتى كتابة هذه السطور خافية وغير معروفة؛ فأبو عليّ ما يزال مصرّاً على الاحتفاظ بسرّ صديقه.
تُرى، ماذا كان يدور بين الاثنين؟ هذا ما سيبقى من أسرار عمّان، التي عادةً ما تحتفظ بأسرارها، لكثرة زوّارها وعشّاقها وقاطنيها، فلكلٍّ حكايته. وتبقى عمّان حارسة السرّ السرمديّ لكل من احترف الكلمة، واحترق بكتابتها.
بيروت كانت محطته الثانية؛ هاجر إليها، كما هاجر لعمّان، بعد أن كانت فلسطين مقرّه وحلمه، لكن الحلم على عادته يخون، ويعتاش على اسمه. وفي بيروت تنقَّل بين ثقافة الرصاص وغابة الموت، ووضع من وجوده وردةً تتنقل بين من يريد الحرية، ومن يريد العيش على الحرية. ورغم رقة المكان وحلاوة الأنثى إلا أن طباعَهُ لم تتغير. أما تجربته الشعرية فقد تطورت، وأصبح الحلم الذي خانه في فلسطين حارساً لشعره في بيروت، لكنَّ هذا المتسكع بين المدن العربية لم يعرف أنَّ هذا الحارس ما هو إلا مفتاح قبره المنتظر.
وفي بيروت كتب علي فودة الرواية، فكانت «الفلسطيني الطيب» روايةَ حلمه الفكري والعقائديّ؛ فصاغَ من فقره أملاً لعلّه يجد بين ثنايا السطور وطناً من غير أثرياء، وانتقم منهم في صُوَر روائية تفضح جشعهم؛ فجاءت صُورُه جملةً روائيةً لفكرٍ لا يرى الأثرياء إلا وحوشاً يبيعون كلَّ شيء ولا يعرفون غير التجارة.
وفي بيروت، أيضاً، شكّلت تجربة جريدة «الرصيف» مرحلة مهمّة في حياته؛ إذ كان من مؤسسيها مع صديقه القاص رسمي أبو علي، ومع شعراء وكتاب عرب آخرين، وكان لسان حال «الرصيف» يقول: «ويطولُ السُّباتُ، ونحن نترك جماجمنا ملقاةً في هيولي الهزيمة، معترفين ونحن بكامل قوانا العقلية والجسدية بأننا نعيش، وبكل مباهج الهزائم، غيبوبة التبعية». فكانت «الرصيف» بيان المقاومة ضد بيان الهزيمة الذي كانت تباشيره تطلُّ من أكثر من نافذة في بيروت، عندما قرّرَ علي فودة تبليغنا رسالتها: «حينها سنُقلع عن كتابة الهزيمة، وسنستيقظ من غيبوبة التبعية».
وعلى أيّة حال، فقد كان علي فودة صوتًا شعريًا نافرًا يمتازُ بالسهولة الممتنعة، والوضوح المقبول، والرقة الرائقة، لكنّه، لم ينل حظّه من الشهرة مثلما نالها آخرون، وهيهات أن تجد في بيانه المحكم السبك ما يتجافى عنه الذوق السليم، وتنبو عنه النفس الشاعرة؛ ومردّ ذلك إلى مكونات الشاعر، من ثقافة واسعة متنوعة، وموهبة فطرية تفاعلت معها أسرار الحياة، فلا عجب وقد تكاملت له عناصر الشاعرية المبدعة أن (يهيم في كل وادٍ) من أودية الشعر، وأن يصبح بحق دعامةً راسخة من الدعائم التي ارتفع عليها صرح النهضة الأدبية المعاصرة.
وقد راكم الشاعر علي فودة تجربةً ثرية كمّاً وكيفاً، وهي، عموماً، تستمد نسغها من انفتاح الشاعر على ثقافات متنوعة، وإصراره على تليين تضاريس اللغة، وركوب غواربها؛ لإضاءة عتمات الروح، وأبهائها الداجية، ورغبته في تأثيث المتناقضات والمفارقات، والتوغل في متاهات القول بحثاً عن أصل الأشياء والطمأنينة المفتقدة.
إن القارىء لشعر الراحل علي فودة بكل ألوان طيفه، يمكن أن يخرج بصورة ذهنية مفادها أن قصائده تنبع من عواطف جيّاشة، وبخاصة في قصائده الوطنية والاجتماعية، إنه كغيره من الشعراء، له صولاته وجولاته على أجنحة الخيال الشعري الذي سافر فيه إلى عالم المرأة والجمال والغزل. لقد نظم الكثير من القصائد الغزلية في ريعان شبابه وعنفوانه، تلك الفترة من حياة الإنسان التي يسودها مناخ تقلّب العواطف والأهواء، وعدم استقرارها وسيطرة الانفعال الوقتي والتأثر اللحظي.
وما يميّز، عموماً، تجربة الشاعر علي فودة، كأيّ تجربة أصيلة، قدرته على مساءلة الواقع وإعادة تشخيصه في منأى عن الصخب الإيديولوجي، وأشكال التكريس، والاستنساخ، والاتباع، وسعيه لتحويل القلق إلى إحساسٍ وجوديٍّ يكشف عن الغامض والمستتر في النفوس والأفئدة، ويرهص بما سيأتي، وبكينونة شعرية جديدة، وبصدى يوحي بالمتتابع والمتجدد والمتغيّر.
إنّ كلّ قولٍ أو نصٍّ لديه يجترح نسقاً بلاغياً احتجاجيّاً ينطوي على جملة من القيم، والعلاقات الاجتماعية، في وسط تصادم الآراء النظرية، والمذاهب الفكرية التي كثُرتْ في مرحلة الستينيات والسبعينيات؛ فكان يعيش في حالة الجدل السياسي الشرس بين الأحزاب، والطبقات الاجتماعية التي اعتمدت على الصراع والحِجاج في إثبات رؤيتها؛ بوصفها رؤية للخلاص كما يراها أصحابها.
إن علي فودة شاعرٌ أصيل، يمتاز شعره بالعذوبة، وصدق المشاعر، وسلاسة اللفظ وبساطته، لايشعل الحرائق في العالم؛ ولكنه يخلق في نفس الإنسان ضرورة الخلاص من عالمه العفن بتجاوز الواقع، والسعي إلى تحريره قبل تحرير ذاته، ما يفيد أنه دخل الحداثة من هذا الاتجاه؛ حين جعل التحرر الاجتماعي تحرراً إنسانياً ينتصر على القديم البائد والموروث العفن.
وتتصف تجربة علي فودة بالعمق والدلالة والإيجاز، وبعشقه للغة في عنادها وتمردها وتوترها، وكَلَفه بالمكابدة في مختلف ألوانها في أفق توليد المعاني، ونحت الأشكال على نحوٍ يسعف في استيعاب مفاجآت الواقع ومفارقاته، واستجماع شظاياه المتنافرة والمتنوعة، واستلال خيوطه المتشابكة والمعقدة؛ (فهو من أصدق شعراء السبعينيات، ليس في الأردن وفلسطين فقط، وإنما في العالم العربيّ عموماً)؛ فالصورة تأتي سريعة وخاطفة وتقدم مادتها الحكائية من خلال منظور السرد الموضوعي المحمول على الوعي الذاتي للواقع وبأسلوب تعبيري واقعي فني يمتاز بالدهشة والإثارة.
لقد ترك علي فودة مجموعة كبيرة من القصائد في الموضوعات الوطنية والوجدانية والغزلية والاجتماعية، وهي الموضوعات التقليدية التي كانت أكثر رواجاً إبّان حياته، والتي ظلت تضيء فضاءه الشعري حتى آخر أيامه، وكان الشعر لغته الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والعاطفية والعقائدية، فكان يترجم أحاسيسه وتفاعله مع بيئته إلى انفعالات ينظمها قصائدَ يحلّق بأجنحتها في سماء الجماعة الإنسانية التي يعيش معها، فيتقاسمان السّراء والضّراء. كانت هذه القصائد تفتح له باباً يدخل من خلاله ليشارك ويساهم في كل التفاعلات الجارية في مجتمعه ليجد نفسه طواعية، وانتماءً لوطنه، وأهله مكافحاً منافحاً موجهاً مباهياً مفاخراً مغازلاً من خلال قصائده، لعلها تكون إسهاماً يشعره أنه قدم شيئاً في حياته. وكان يصرّح على الدوام أنه لا يبغي في المقام الأول إلاّ أن يعبّر عن مكنونات مشاعره وعواطفه، وما يجيش في بحور رؤاه تجاه وطنه وأهله وتاريخ أمته.
ولئن كان علي فودة أحد الشعراء المهمشين الذين تجاهلت المؤسسات الثقافية إبداعاتهم، فإن نتاجه يستعاد دوماً ويحضر في كل جدلٍ فعلي حول فنية القصيدة العربية المعاصرة؛ ولذا فإن حضوره اليوم ليس من قبيل التذكر بقدر ما هو استمرار لنقاش يدور بشكل راهنٍ وبعمق حول مستقبل الكتابة الأدبية العربية وإسهامها في مشاركة العالم في تحقيق وعي الإنسان.
جاءت لحظة الوداع، وداع بيروت، عبر قصفٍ «إسرائيلي» يعرف من يقتل، ولماذا يقتل؟ فليس من باب المصادفة أن يُغتال علي فودة، وهو يتأبّط صفحات «الرصيف»، ويهمّ بالدخول إلى المطبعة، فكان الموت في الانتظار؛ لأنّ أعداءه يكرهون الشعراء والرواة والحياة.
احتضنه تراب بيروت، وها نحن في عمّان، نشعلُ لذكراه شمعةً بدراساتٍ وقراءاتٍ لكُتّابٍ أرادوا من كلماتهم التعريف بالإنسان والثائر والمتسكّع، والوفاء لمن عبروا من عمّان إلى طريق الحرية والحياة.
ومن بين الاعتبارات التي اعتُمدت في اختيار الشاعر علي فودة لتكريمه بهذا الكتاب أنه يعتبر واحداً من شعراء فلسطينيين انغمروا، طيلة عقود من الزمن، في يمّ القصيدة الحديثة ومجاهيلها حرصاً على تطوير بنياتها الفنية، وتوسيع إشعاعها ودائرة تلقيها، واستيعاب أسئلة الوجود بمختلف تجلياتها وامتداداتها وأبعادها، واستنطاق سرائر الكينونة وأحلامها لاستلهامها في ما يكتبون.
وإيماناً بأهمية تجربته الشعرية والروائية فقد جاء هذا الكتاب الذي يحوي بين دفتيه مقالاتٍ وأبحاثاً لعدد كبير من الكتاب والنقاد والأكاديميين حول تجربة الشاعر الكبير علي فودة تكريماً لجهوده، وتنويهاً بذكره، وتأهيلاً لمكانته المتميزة في المشهد الثقافي العربي.
ونجدد الشكر إلى الباحثين الذين قدّموا دراساتهم احتفاءً بشاعر كبير من طراز ومعدن علي فودة، واعتزازاً بما قدّمه من تضحياتٍ جسام وجهود متواصلة لتطوير القصيدة العربية، وتوسيع دائرة إشعاعها، وإحاطة ربوعها الممتدة بهالةٍ من الجمال والدهشة والفتنة.