كتاب " في مستوى النظر " ، تأليف منتصر القفاش ، والذي صدر عن دار التوير للنشر والتوزيع (مصر).
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب في مستوى النظر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في مستوى النظر
وصف الشقة
حاول أبي كثيرا إقناع أمي بشقة الدور الأرضي، لكنها ظلت ترفض، فهي لا تتخيل أن تطل من الشباك فتجد الإسفلت قريبا منها. عدّد أبي المزايا التي يعرف أنها تستهوي أمي: شقة أكبر من التي كنا نسكن فيها، أربع غرف، والمطبخ واسع، وسيسمح صاحب البيت لنا باستخدام غرفة جوار الشقة لنخزن فيها ما نريد.
لم يدافع أبي عن هذه الشقة كل هذا الدفاع إلا بسبب خوفه من المستقبل، فقد استحوذت عليه صورته حينما يشيخ ولا يستطيع صعود السلم. لم تقنعه إمكانية اختيار عمارة فيها أسانسير. ارتبط الأسانسير لديه فقط بالمشاكل التي يثيرها أكثر من أنه عنصر راحة. فقد يتعطل في أي وقت، ويظل محبوسا في الشقة لا يستطيع النزول أو يعاني الأمرّين أثناء الصعود. لم يكن وقتها يشكو من أي آلام في ساقيه أو ركبتيه، لكن إصراره على الدور الأرضي صار بالنسبة إليه تدبر أمر المستقبل قبل أن تباغته أمراض مختلفة. وصار أي كلام يسمعه عن أنه في أحسن صحة ثقة في الزمن لا مبرر لها.
كنا نسكن وقتها في المنيا، وبعد أن التحق أخواي بجامعة القاهرة ازداد قلق والديّ عليهما من أن يظلا يعيشان بمفردهما. فسافر أبي ليبحث عن شقة ننتقل إليها. وكان أبي في كل مكالماته مع أمي، وبعد أن يسهب في وصف شقة الدور الأرضي، يتعجل موافقتها حتى يلتئم شمل الأسرة قبل بدء الدراسة. لم يذكر أبي لها أي شيء عن لقاءاته مع صاحب البيت. وكيف أنه يشبهه في حكي الحكايات وتذكر أيام زمان، ولا يمل من استرسال أبي في الحكي مهما طال الوقت. بالإضافة إلى إصرار صاحب البيت على أن يلتقيا دائما بغض النظر عن مسألة إتمام تأجير الشقة. عرفت أمي كل ذلك من أخي الكبير الذي كان يرافق أبي في رحلة البحث عن شقة. وفي إحدى المكالمات فاجأت أبي وأمليت عليه عنوان عمارة بأسانسير أعجبت أخي، وفيها شقة في الدور الخامس. صاح فيها غاضبا من أنها تثق في ذوق واد عيل، على الرغم من أن أخي كان في السنة الثانية في كلية الحقوق، وأعاد تذكيرها بأن شقة الدور الأرضي ليست قريبة من الأسفلت بل يمكن اعتبارها «دور أول واطي شوية».
استقر الأمر في النهاية على شقة في الدور الثالث بمنطقة العمرانية بالجيزة. من شرفتها كنا نستطيع رؤية قمم الأهرامات والغيطان المتناثرة في المنطقة. وبمرور السنوات ارتفعت العمارات المواجهة لنا، واختفى الفضاء الواسع، وحلت مكانه شبابيك الجيران المواجهة لشقتنا، بعدما ضموا البلكونات الى الداخل لتوسيع مساحة الشقق.
وفي يوم تذكرت أمي الأيام التي كانت شقتنا فيها تطل على الدنيا، فأشار أبي نحو الشارع، وقال لها إن العمارات التي تختنق بها المنطقة صارت كلها كأنها دور أرضي.