كتاب " دمية النار " ، تأليف بشير مفتي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، نقرأ من اجواء الرواية :
أنت هنا
قراءة كتاب دمية النار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كنت أظن في تلك السن البعيدة أن الأمر متوقف على شيء آخر خارج ذاتي وخارج العالم، من شأنه مساعدتي على الدنو من منطقة الأدب المغرية والعسيرة، وكنت قرأت ربما في رواية لكاتب فرنسي يدعى "آلان نادو" أن الأدب يشبه تلك المرأة التي تمارس "الستريبتيز" (لا أدري كيف تترجم للعربية؟)، أحيانًا تكشف للبعض عن جانب فقط من جسدها، وأحيانًا عن عدة جوانب، ونادرًا ما تكشف كل شيء إلا لمن تشعر أنه يستحق ذلك، أو تعتقد أنه مؤهل للشغف الكلي بمنظر كذاك المنظر..
قلت: في هذه الفترة بالذات تعرفت على رضا شاوش، عند رجل اسمه العربـي بن داود والجميع يناديه بعمي العربـي، كان قد فتح بيته لجميع المشاغبين، أو من يراهم كذلك، في السياسة والفن والأدب، وكان يسهر على راحة كل من يزوره فيهديه كتبًا، أو قنينة نبيذ يحضرها له ضيوفه، أو شيئًا من أريج الكلام الذي يلهج به لسانه. كان رجلاً متقدمًا في السن، لم يتزوج، ولم يكن له أي ولد، وسمعنا عنه قصصًا كثيرة، أنه كان مجاهدًا أيام الثورة، ومعارضًا بعد الاستقلال، ودخل السجن، وشُرّد، وعُذّب، وغير ذلك، وأنه بقي وفيًّا لمبادئه، ومعارضًا لخصومه، ومنتقدًا للنظام، وأن كل ذلك كلفه غاليًا، فترك مهنة الصيدلة التي كان يعمل بها إلى تصليح الأحذية لفترة غير قصيرة، ثم عاد لمهنته بعد نهاية السبعينيات ورحيل الرئيس هواري بومدين الذي كان يمقته أشد المقت، ونادرًا ما يمدحه. لم أكن أقاسمه نفس الرؤية لصغر سني بالتأكيد حينها، أو لأنني كنت أشعر أنني تعلمت في المدرسة بفضل مجانية التعليم والاشتراكية التي تركت بصمتها علينا نحن الجيل اللاحق لما بعد الاستقلال، وكنت أذكر دائمًا أن والدي كان يقول أشياء حميدة عن هذا الرئيس حتى رحل أو قتل، فلقد بقيت شائعة تسميمه تلوكها الألسن لفترة طويلة، ووالدي كان مثل الناس البسطاء الذين يؤمنون بقوة الشائعات وفكرة المؤامرات، ولا يصدقون أن الرجل مات بسبب مرض خبيث لاغير، لكن ذلك لم ينقص من تقديري لعمي العربـي الذي وجدت في كلامه خير زاد في سنوات شبابـي تلك، وخاصة أنه كان متفتحًا ومستمعًا جيدًا، ولم يكن السن حاجزًا بينه وبيننا نحن الشباب الصغار الذين كنا نثرثر وكأننا نملك مفاتيح العالم، ونقدر على تغيير أي شيء نريد تغييره، بالرغم من الفقر والبؤس الذي كنا نعيش فيه، وبقينا بداخل أدرانه نتلوث يومًا بعد آخر.
لقد لقيت رضا شاوش خلال إحدى السهرات التي أقامها عمي العربـي ببيته في حي بئر مراد رايس، وكان في الخامسة والثلاثين أو أكثر، مستقيم الجسم، ذا عينين باردتين نوعًا ما ونظرة متأدبة؛ فلم يرفع نظره نحو أي أحد، كما لم يحاول أن يختلط بنا، وبدا كأنه محرج من وجود هذا العدد الكبير من الناس، وكان يبدو على صداقة عميقة مع عمي العربـي الذي سرعان ما اختلى به على جانب، ورأيتهما يدردشان بصوت منخفض لم يصلني منه أي شيء، ثم عادا للصالون وجلسا قرب بعضهما البعض، وكنت أنا هناك، وفجأة قدمني لرضا قائلاً:
- لا أدري لماذا يذكرني بشير. م بك أيام كنت شابًّا، وتحلم بالكتابة.
ابتسم رضا، وحدث معي نفس الشيء، وقلت مصافحًا:
- أهم ما يرضيني عند عمي العربـي أنه يعرف كيف يجمع الناس بحسب هواياتهم.
فرد رضا قائلاً:
- بالفعل..
ليسألني بسرعة:
- هل تكتب؟
- نعم أكتب، ولكن أقرأ أكثر. مازلت في البداية، لا أعرف إن كان ما أكتبه ذا قيمة أم لا؟
- صحيح، هذه هي المشكلة.. أحيانًا لا نعرف الجواب حتى تنتهي أعمارنا..
أكدت له ذلك، وأفرغت ما بقي في كأسي من نبيذ أحمر، وكانت تلك هي المرة الأولى التي ألج فيها عالم الشرب بدافع التقليد لا غير، لأسأله بعدها:
- وأنت لماذا توقفت عن الكتابة؟
رد متمهلاً هذه المرة، وهو يبتسم ابتسامة غامضة بانت بشكل عابر للغاية:
- هذا لأنني لست كاتبًا.
ليضيف بعد صمت قصير:
- أعدك أنني لو كتبت شيئًا سأمنحه لك عن طيب خاطر لتقرأه.
- سأكون جد سعيد لذلك.
- لست متأكدًا أنني سأفعل هذا ذات يوم، ولكن من
يدري..
ليقوم فجأة من مكانه، ويعتذر منصرفًا للخارج. أظن أنه ترك أثرًا على روحي حينها، استفسرت عمي العربـي عنه إلا أنه تهرب قدر ما يمكن من أسئلتي، وراح يتكلم عن سنوات السبعينيات المقيتة كعادته، دون أن يذكر أي شيء عن رضا شاوش، الأمر الذي ربما زاد من رغبتي في معرفته أكثر.


