أنت هنا

قراءة كتاب دمية النار

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دمية النار

دمية النار

كتاب " دمية النار " ، تأليف بشير مفتي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، نقرأ من اجواء الرواية :

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 3

كانت تلك هي بداية معرفتي بهذا الشخص الذي استأثر باهتمامي فجأة، كما لو كان موضوع رواية رغبت في تتبع أطوراها ومسارها منذ النشأة حتى النهاية، إلا أن الحظ لم يسعفني بلقائه إلا مرات قليلة تعد على أصابع اليد، لكن في كل مرة كنت ألتقيه فيها، كان يزيد من شغفي بالتعرف على شخصيته واكتشاف أسراره. ورغم إنني ربطت ذلك بالجانب الأدبـي الذي يسكنني، إلا أنني كنت أنظر إليه على أنه شخص مختلف، أو عصفور نادر كما يقال، وأن هذا النوع من البشر يملك شيئًا يميزه عن غيره، ولا يجب تفريط فرصة التعرف عليه أكثر فأكثر كلما سنحت الظروف بذلك.

غير أن ذلك لم يحدث بالصورة التي رغبت فيها، رغم اندفاعي للتعرف على الناس في تلك الفترة من حياتي؛ متوهمًا أن الأدب هو قبل أن يكون كذلك تجارب في الحياة، ربما كنت وقتها تحت تأثير ذلك الكاتب الأمريكي المتشرد "جاك كيرواك" وبطل روايته "على الطريق" حيث الحياة لقاءات ومصادفات تولد بالضرورة شيئًا اسمه الكتابة بعدها.

لن أفضح نفسي إذا قلت إن ما كان يهمني قبل كل شيء ليس الناس في حد ذاتهم، ولكن ما يمكن أن يخلقوه بداخلي من توتر وقلق، أو حيرة وتأمل، أو رغبة في البحث والاكتشاف، أي ما يولدونه من رغبة في الكتابة لا غير، كما لو أنني وأنا لا أزال في طور البدايات الجنينية الأولى كنت أعد نفسي بمستقبل زاهر في عالم الكتابة الروائية، والتي كنت مستعدًا للتضحية من أجلها بأي شيء. أَلَمْ أقُم بتطليق "عالم الميتافيزيقا" الذي كنت مستريحًا داخله، ومطمئنًا كل الطمأنينة بين أحضانه؟ ألم أهجر عائلتي هجرة شرسة ولعينة؛ لأعيش متنقلاً بين بيت صديق شاعر كان قد تكرم علي بسرير نوم مقابل أن أدفع له مرة أو مرتين في الشهر خبطة حمراء تنسيه العالم وما فيه.. وبيت امرأة مطلقة كانت تتكرم عليّ بمتعها الحسية العميقة والمجنونة، مستلهمًا منها حرارة الجسد في برد الشتاءات القارصة؟ لقد كنت بداخلي مستعدًا لكل المهلكات التي لا يمكن أن يواجهها أي إنسان من أجل جملة واحدة، تبلغني مقام العلى وترفعني للفرحة السرمدية، فرحة الإبداع التي ما بعدها فرحة أخرى..

لقد خلق رضا شاوش تلك الرغبة الجامحة في التعرف عليه، في البحث عن ماضيه وحكايته مع الحياة، في السؤال عنه، لكن كما لو أنني لم أكن متسرعًا للقبض على ما يخفيه عني وعن الآخرين وربما حتى عن نفسه، تركت الأمور تسير على ما تقرره الصدف والسياقات، وبداخلي بقيت متأكدًا من أن شيئًا ما سيربطنا بالتأكيد، أو سيجعل قدره مرتبطًا بقدري. أما كيف، ولماذا سيحدث ذلك فلم تكن عندي أدنى إجابة.

* * * *

في المرة الثانية التي قابلته فيها كان ذلك بطلب منه، حيث دعاني لشرب قهوة، فذهبت نحوه مسرعًا، وجلسنا بمقهى "حليب إفريقيا" بساحة أودان. كان المكان ضاجًّا بالزبائن الماكثين، والناس العابرين، حيث وجدت رضا ينتظرني هناك، جالسًا لوحده يتأمل. لا أخفي أن منظره أوحى لي بتفكيرات غريبة كأن يكون جاسوسًا، أو منخرطًا في سلك خطير، وأنه مصدر معلومات مهمة، يختزنها في مكان ما من عقله الباطن، وأن ذلك كان كفيلاً أن يثير اهتمام شاب مثلي بدأت تنشر له الجرائد الحكومية بعض النصوص والمقالات القليلة، تقاضيت عليها أجرًا زهيدًا مكنني أيامها من الشعور بالفخر والاعتزاز، ومن أكل لحم مشوي عند أحد المتخصصين في شواء اللحم على الجمر بحي "العقيبة". جلست قبالة رضا شاوش فسلم عليّ وطلب لي قهوة، لم يتكلم إلا في أشياء غير مهمة كجمال الطقس، وحلاوة العيش في هذه المدينة، فبدا لي الأمر غريبًا أن يدعوك إنسان لكي يتحدث إليك عن أمور بلا أهمية، لكنه سرعان ما سألني عن كتاباتي الأدبية، فرحت كعادتي أطنب في شرح الأشياء التي لا تشرح في الحقيقة، وأخبرته عن قراءاتي أكثر وحبـي للأدب، الأمر الذي جعله يبتسم ويوحي لي بأنه شغوف هو أيضًا بهذا العالم، دون أن يخفي حسرته على أن ذلك كان في زمن مضى وليس الآن، وأن قدره الأدبـي قد انتهى في تلك الأيام، أو مات موتًا نهائيًّا، وأنه الآن يعيش بفكرة أن "الحيوان الأدبـي" الذي عاش في ثوبه لفترة قد تُوفي بالفعل. وبسذاجة شاب رحت أنصحه أن لا يكترث بهذه الأمور، وأن الأدب شيء يمكن أن ينبثق في الإنسان في أي لحظة، فعاد للابتسام، ولم أفهم سر تلك الابتسامة التي بدت مزيجًا من السخرية والتحسر، كاظمة نوعًا من الألم الخفي عن الأعين، ثم ظننت أن ذلك ليس إلا بداية ليتحدث في الموضوع الرئيسي، أو ما ظننته دعاني لأجل الحديث عنه، إلا أنه لم يقل شيئًا محددًا، لقد بقي يحوم حول مواضيع كثيرة ومتعددة، حتى إنه سألني عن رأيي في الدين، وهو يستدرجني بطريقته الذكية في إثارة القضية:

- لم يكن الدين في فترة شبابـي مهمًّا، بل كنا نعيش فورة اللا دين، لكنني الآن أشعر أنه صار يشغل وجدان الناس.

فاجأني الموضوع، ولم أجد ما أجيبه به، ولم أستطع كذلك أن أردد أمامه سيرتي المتقلبة بين الإيمان والجحود، أنا الذي نشأت في محيط ديني، وعائلة تقليدية محافظة ومتمسكة بالدين كثابت رئيس في حياتها، وركن من أركانها التي لا تناقش. لكنني شاطرته الرأي في أن هناك شيئًا ما يحدث بالفعل، وأنه لأمر يثير الحيرة والغرابة في الوقت نفسه، فعاد يسألني لماذا؟ وهنا توقفت عن الكلام ورحت أصف له وضعيتي الروحية:

- لقد تدهورت بشكل مروع بالفعل؛ لأنني بدأت متدينًا بالفطرة والتقليد والتعود، والأمر والنهي وحتى الزجر من طرف الوالد، ثم تمردت على كل ذلك، ولم أعد أطبق أي شيء من تلك التعاليم، غير أن تمردي لم ينقذني من أي شيء، لقد كانت أبواب الحرية التي طرقتها مليئة بالقلق والتمزق، والتمرد ليس دائمًا حلاً إن لم يكن مجهزًا بإرادة قوية لمعرفة ماذا تريد من خطواتك القادمة..

- ألا تعتبر ذلك شيئًا عاديًّا وأنت في الرابعة والعشرين؟

الصفحات