أنت هنا

قراءة كتاب عن الديموقراطية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
عن الديموقراطية

عن الديموقراطية

كتاب " عن الديموقراطية " ، تأليف روبرت أد.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

شمال أوروبا

نلاحظ أن أنظمة الحكم الشعبي في اليونان، وروما، وإيطاليا، وسواء أُطلق عليها وصف ديمقراطية أو شعبية، تفتقد المزايا الهامة للنظام التمثيلي الحديث. تألفت اليونان القديمة، وكذلك إيطاليا العصور الوسطى وعصر النهضة من حكوماتٍ شعبية محلية، لكنها افتقدت حكومةً قوميةً فعالة. يمكننا القول، والحالة هذه، إن روما عرفت حكومة محلية واحدة، هي التي استندت إلى المشاركة الشعبية لكن من دون برلمان قومي مؤلفٍ من نوابٍ منتخبين.

يمكننا أن نلاحظ مع ذلك، ومن منظورنا هذه الأيام، الغياب الواضح لثلاث ثوابت [مؤسسات] institutions سياسية أساسية، أقلُّه، عن كل هذه الأنظمة: برلمان قومي مؤلف من نوابٍ منتخَبين، وحكومات محلية منتخبَة شعبياً [يختارها الشعب]، وهي تخضع في النهاية للحكومة القومية. لم يُبتكر بعد في هذه المرحلة نظامٌ يجمع الديمقراطية على المستويات المحلية مع برلمانٍ منتخبٍ شعبياً يتربع على رأس السلطات. نشأت هذه التركيبة من الثوابت السياسية بدايةً في بريطانيا، واسكندنافيا، والأراضي المنخفضة، وسويسرا، وفي أماكن أخرى شمالي المتوسط.

لكن بالرغم من تشعُّب أنماط التطور السياسي كثيراً في هذه المناطق، إلا أن صيغة شديدة التبسيط منها سوف تبدو على هذه الشاكلة. يبدأ المواطنون الأحرار والنبلاء في مختلف المواقع بالمشاركة مباشرة في المجالس المحلية. يُضاف إلى هذه الصيغة المجالس الإقليمية والقومية التي تتألف من نوابٍ يُمكن انتخاب بعضهم أو جميعهم.

المجالس المحلية: أريد البدء في هذا البحث بالفايكنغ، ليس من منطلق تعاطفي معهم فحسب، بل لأن تجربتهم غير معروفةٍ كثيراً بالرغم من أهميتها الشديدة. قمت مراتٍ عديدة بزيارة المزرعة النرويجية التي تبعد نحو 80 ميلاً إلى شمال شرقي تروندهايم، وهي المكان الذي هاجر منه جدّي من ناحية والدي (سررت جداً لأن المكان ما زال يُعرف باسم دال الغربية). أما في بلدة شتينجر المجاورة، فما زال بإمكان المرء رؤية سلسلة من الأحجار الكبيرة التي هي على شاكلة قارب حيث اعتاد الأحرار من الفايكنغ الاجتماع بانتظام في الفترة ما بين العامين 600 إلى 1000 بعد الميلاد، وذلك لعقد مجلس قضائي يدعى تينغ باللغة النرويجية. (بالمناسبة نلاحظ أن الكلمة الإنكليزية thing مشتقةٌ من كلمة باللغة الإنكليزية القديمة تعني شيئاً واجتماعاً في الوقت نفسه). يمكن إيجاد أماكن مشابهة، وحتى أقدم عهداً، في أماكن أخرى في جوار تلك المنطقة.

كانت اجتماعات لأحرار الفايكنغ بحلول العام 900 للميلاد، ليس في منطقة تروندهايم فحسب لكن في مناطق أخرى من اسكندنافيا كذلك. عُقدت اجتماعات تينغ في الهواء الطلق في حقلٍ مفتوح يجري تحديده بواسطة أحجارٍ عمودية كبيرة، أي كما كانت الحال عليه في شتينجر. كان الرجال الأحرار يقومون في خلال اجتماعات تينغ بتسوية الخلافات، ويناقشون القوانين ويقبلونها أو يرفضونها، وكانوا يتبنّون أو يرفضون تغييراً مقترحاً للدّين (كما فعلوا عندما تقبلوا المسيحية بدلاً من الدّين النرويجي القديم). وصل الأمر إلى حد انتخاب ملكٍ أو التصديق على انتخابه، وهو كان مطلوباً منه، عادةً، قسمُ يمين الإخلاص للقوانين التي تصادق عليها اجتماعات تينغ.

لم يكن الفايكنغ يعرفون أي شيء، أو عرفوا القليل، أو أنهم لم يكترثوا أن يعرفوا، عن الممارسات السياسية الديمقراطية والجمهورية التي كانت موجودة قبل ألف سنة في اليونان وروما. لكن يبدو أن الفايكنغ كوّنوا مجالس assemblies خاصة بهم انطلاقاً من منطق المساواة التي طبّقوها على الرجال الأحرار. بقيت فكرة المساواة بين الفايكنغ حيةً ومحترمةً في القرن العاشر، الأمر الذي تشهد به الحادثة التالية: كان بعض الفايكنغ الدنماركيون يسافرون في أحد أنهر فرنسا عندما سألهم أحد المبعوثين، وكان يناديهم من ضفة النهر: «ما هو اسم سيّدكم؟» أجابه البحارة: «ليس لنا سيّد، إننا متساوون جميعاً»[3].

لكن يجب علينا عدم الاندفاع في المبالغة. كانت المساواة التي فاخر بها الفايكنغ تنطبق على الرجال الأحرار فقط، كما أن أوضاع هؤلاء كانت تتباين كثيراً في مستوى الثروة والمراكز الاجتماعية. كان العبيد يأتون خلف الرجال الأحرار. امتلك الفايكنغ العبيد مثلهم مثل اليونانيين والرومان، أو بالأحرى كالأوروبيين والأميركيين بعدهم بعدة قرون. تألفت طبقة العبيد من الأعداء الذين يُقبض عليهم في المعارك، أو من ضحايا الغزوات التعساء، الذين يؤسرون نتيجة الغزوات على الشعوب المجاورة، أو بكل بساطة الأشخاص الذين يتم شراؤهم في نطاق تجارة العبيد القديمة التي كانت شائعة في ذلك الزمن. بقي العبيد في حال تحرّرهم معتمدين على مالكيهم السابقين، وذلك على خلاف ما كان الأمر عليه مع الرجال الذين كانوا أحراراً منذ ولادتهم. كانت طبقة العبيد تأتي تحت طبقة الرجال الأحرار، لكن فوق هذه الأخيرة كانت تتربع العائلات الأرستقراطية ذات الثروات، التي كانت تتألف عادةً من الأراضي، والمراكز الاجتماعية الموروثة. أما في ذروة ذلك الهرم، فكان يتربع الملك الذي كانت صلاحياته محدودة بانتخابه، وبالتزامه إطاعة القوانين، وبحاجته إلى ضمان ولاء النبلاء ودعم الرجال الأحرار.

يمكننا القول إنه بالرغم من هذه القيود الشديدة على المساواة، كانت طبقة الرجال الأحرار - الريفيون الأحرار، صغار المالكين، والمزارعون - كبيرة بما يكفي لفرض تأثير ديمقراطي دائم على المؤسسات والتقاليد السياسية.

أما في أنحاء أخرى من أوروبا، فقد ساعدت الأوضاع المحلية في بعض الأوقات على ظهور المشاركة الشعبية في الحكومة [الحكم]. وفّرت الأودية العالية في جبال الألب، على سبيل المثال، قدراً من الحماية والاستقلالية للرجال الأحرار الذين عملوا في الأنشطة الرعوية. يصف أحد الكتّاب العصريين منطقة رايتيا (التي أصبحت لاحقاً كانتون غراوبندين في سويسرا) في نحو العام 800 للميلاد على النحو الآتي: «وجد... الريفيون الأحرار أنفسهم في وضعٍ متساوٍ تماماً... واستخدموا حقوقهم المشتركة في استخدام [المراعي الجبلية] لتطوير حسّ بالمساواة، كان يناقض تماماً الاندفاع الإقطاعي والتمييزي الوراثي في القرون الوسطى. تمكن هذا الروح التمييزي من الهيمنة على الديمقراطية التي ظهرت في وقتٍ لاحق في الجمهورية الرايتينية»[4].

من المجالس إلى البرلمانات: نقل الفايكنغ معهم، عندما جازفوا برحلاتهم غرباً وقد حملتهم إلى آيسلندا، ممارساتهم السياسية، كما أعادوا إنشاء مجالس تينغ في عدة مناطق. لكنهم فعلوا ما هو أكثر من ذلك: أنشأوا في سنة 930م، مستبقين في ذلك ظهور البرلمانات الوطنية في أمكنة أخرى لاحقاً، نوعاً من مجالس تينغ العليا Althing، أو الجمعية الوطنية [المجلس الوطني]، وهي المجالس التي بقيت مصدراً للقانون الآيسلندي على مدى ثلاثة قرون، وذلك إلى أن أُخضع الآيسلنديون على يد النروج[5].

نشأت في هذا الوقت مجالس إقليمية في النروج والدنمارك والسويد، ما لبثت أن تطورت لاحقاً إلى جمعياتٍ [أو مجالس] وطنية، أي كما حدث في آيسلندا. لكن بالرغم من التطور الذي طرأ بعد ذلك على صلاحيات الملك، الذي ساهم مع البيروقراطيات المركزية الواقعة تحت سيطرته في تقليص أهمية هذه المجالس الوطنية، إلا أنها تركت أثرها مع ذلك في التطورات اللاحقة.

أما في السويد، على سبيل المثال، فقد أدت تقاليد المشاركة الشعبية في المجالس الموروثة عن حقبة الفايكنغ في القرن الخامس عشر إلى نشوء سلف البرلمان التمثيلي الحديث، وذلك عندما بدأ الملك بالدعوة إلى اجتماعات لممثلي القطاعات كافة في المجتمع السويدي: النبلاء، رجال الدين، والمواطنين، والأشخاص العاديين [العامة]. تطورت هذه الاجتماعات في نهاية الأمر إلى ريكسداج، أو البرلمان السويدي[6].

أما في الأراضي المنخفضة [هولندا] والفلاندرز، وهي بيئة مختلفة تماماً، فإن عوامل التوسّع في الإنتاج، والتجارة، والموارد المالية، ساعدت كلها على تكوين طبقاتٍ متوسطة تعيش في المدن، وتتألف من أشخاصٍ تمكنوا من الحصول على موارد مالية كبيرة. لم يتمكن الحكام الذين يطلبون الحصول على مداخيل بشكلٍ مستمر من تجاهل هذه الفئة الجديدة، ولا من فرض الضرائب عليها من دون الحصول على موافقة أصحابها. عقَدَ الحكام الاجتماعات بغية الحصول على هذه الموافقة، ودعوا إليها ممثلين عن المدن والبلدات، وأهم الطبقات الاجتماعية. لكن بالرغم من أن هذه الاجتماعات والبرلمانات، أو الهيئات estate كما كان يُطلق عليها عادة، لم تتطور مباشرة إلى الهيئات التشريعية الوطنية التي نعرفها هذه الأيام، إلا أنها أنشأت أعرافاً، وممارسات، وأفكاراً ساعدت كثيراً على التطور في ذلك الاتجاه.

بدأ في هذا الوقت البرلمان التمثيلي بالنشوء تدريجاً من بداياتٍ غامضة، بحيث تمكّن في القرون التالية من ممارسة أعظم قدرٍ من التأثير على فكرة الحكومة التمثيلية وتطبيقها. كان ذلك هو برلمان إنكلترا العصور الوسطى، لكنه كان نتاج التطور العشوائي أكثر مما كان نتاج القصد والتخطيط، وهكذا تطور البرلمان من اجتماعات تعقد بين فترة وأخرى، وتحت ضغط الحاجة، في خلال عهد الملك إدوارد الأول في الفترة ما بين العامين 1272 و 1307.

لكن كيفية تطور البرلمان من هذه البدايات، هي قصة طويلة ومعقدة بحيث لا يُمكن إيجازها هنا. لكن أدى ذلك التطور بحلول القرن الثامن عشر إلى ظهور نظامٍ دستوري يجعل الملك والبرلمان مقيّدَين بصلاحيات كليهما معاً. أما في البرلمان، فإن سلطة الأرستقراطية الوراثية داخل مجلس الشيوخ كانت توازنها سلطة الشعب في مجلس العموم؛ كما أن القوانين التي كان يسنّها الملك والبرلمان كانت تُعرض للتفسير على يد القضاة الذين كانوا غالباً، وليس دائماً، مستقلين عن الملك والبرلمان على السواء.

لقي هذا النظام في خلال القرن الثامن عشر - الذي بدا مدهشاً، والذي يتضمن القيود والتوازن ما بين القوى الاجتماعية الرئيسة في البلاد، وكذلك الفصل ما بين السلطات داخل الدولة [نظام الحكم، أو الحكومة] - إعجاباً واسعاً في أوروبا. أثنى الفيلسوف السياسي الفرنسي الشهير مونتيسكيو بالإضافة إلى آخرين على هذا النظام، كما أعرب واضعو الدستور في أميركا، وعددٌ منهم أمل إنشاء جمهورية في أميركا تحافظ على حسنات النظام الإنكليزي، لكن من دون سيئات الملكية، عن إعجابهم بهذا النظام. قدّمت الجمهورية التي ساعد هؤلاء على تأسيسها نموذجاً يُحتذى لجمهورياتٍ عديدة أخرى

الصفحات