كتاب " الحاسة صفر " ، تأليف أحمد أبو سليم ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، نقرأ
أنت هنا
قراءة كتاب الحاسة صفر - قصة و رواية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في كلِّ زاوية كان، في كلَّ ركنٍ، وعلى كلِّ جدار، ورائحته تملأُ البيت، وأشياؤه ظلَّت مبعثرةً كما كانت يوم غاب، وثيابه معلَّقةٌ على الجدران، واسمه يتردَّد طوال النَّهار وكأنَّه كان وحده هناك وكنَّا نحن الغائبين، نسيت نفسها ونسيتنا، ولم تكن تتذكَّرُ غير عيسى، كُنَّا صغاراً آنذاك، لا نعي ما يدور حولنا، وكانت هي تحترف الكتمان، كان عيسى أَكبرنا، ثمَّة من قال إنَّه سيعود، وثمَّة من قال إنَّه لن يعود، لكنَّها لم تكفف يوما عن رواية حلمها الطَّويل في كلِّ المناسبات: كفُّه المعلَّقة بكفِّها وهو مدلَّى في الهواء، وعيناه مليئتان بالتوسُّل والدُّموع.
مَنْ كان يتشبَّث بكفِّ مَنْ؟
هل كانت هي الَّتي تمسك بكفِّه أم كان هو الَّذي يتشبَّث بكفِّها كي لا يسقطَ ويموت؟
لم تترك شيخاً أو عرَّافاً أو دجَّالاً إلا وذهبت إليه، بحثت عنه في الأردنِّ، وسوريا، ومصر، ولبنان، والعراق، وفلسطين، زارت كلَّ المعتقلات والسُّجون، وكلَّ المنظَّمات الإنسانيَّة، وكلَّ مكاتب منظَّمة التَّحرير، كانت تغيب طويلا ثمَّ تعودُ مكسورةً كأنَّها شاخت ألف عام، ما كان يثير فينا القلق والحيرة والسُّؤال.
كأنَّ عيسى هو الأوَّل والأخير، صرنا نعرف عنه أكثر ممَّا نعرف عن أنفسنا، كانت مخلصة لغيابه أكثر من إخلاصها لحضور الجميع.
أبـي جاء بنا فارَّاً من الخليل إلى عمَّان يوم سقطت المدينة في يد "إسرائيل"، كان يخبِّئُ ما لم نكن ندركه آنذاك، قال إنَّه فرَّ مع الآخرين من سطوة الموت، وسطوة "جيش الدِّفاع" وسطوة لسان أمِّهِ الَّتي كانت تكره أمِّي ولا تترك مناسبة إلاّ وتعلنُ فيها عن عداوتها لها دون أن يعرفَ أحدٌ السَّبب.
اشترى لها بيتاً وسط عمَّان لكنَّها رفضت أن تسكنَ فيه، كانت تريد أن تندسَّ بين النَّاس وتختفي، وكأنَّ يداً ما تطاردُها، وتبحثُ عنها، بحثت عن بيتٍ متهالكٍ في الوحدات، وسكنت فيه، وكانت كلَّما سُئلت عن أصلها أجابت أنَّها من رام الله، ولم تُضِفْ شيئاً آخر.
لم أكن قد تجاوزت عامي السَّادس حين مات أبـي، وتركها مع حملها الثَّقيل، وسرِّها الَّذي حملته على كتفيها كلَّ تلك السِّنين، وماتت دون أن تبوح به لأحد.
أيُّ لعنة كانت تطاردها؟