كتاب " بابنوس " ، تأليف سميحة خريس ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب بابنوس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

بابنوس
الرسالة
لكل مخلوق أم وأب، وخالق. لا شيء يُبعث من فراغ، حتى الفكرة في رأسي الأبيض المكلل بالشيب، تولد من أم تلدها. لسنا آلهة منقطعة عن جذورها، ولكن الرياح تذرونا بعيداً عنها غالباً، وتجذرنا في أماكن غريبة، تصير لنا أباً وأماً ووطناً.
مثلما شجرة الأبنوسة قوية مخاتلة، أبوها اللقاح؛ يسري دم أمها الشمس الحارة الساطعة في عروقها الخشبية. تنمو على ما نريق من ماء محبتنا فوق التراب، تزهو بأنفاسنا، وتزهر باللمس، تعطي والفأس تضرب جذعها، فإذا ماتت؛ بيعت منحوتة عبقرية للخواجات.
حينها أيضاً لا بد لها من أب وأم جديدين؛ نحات وإزميل.
نظام كوني شامل، إلا أني كثيراً ما أشعر -من دون منطق- أني خارجه.
يسمّونني "الحكّامة"، ويناديني الصغار الشُّفَّع بما ينادون به جداتهم: "حبوبة". فبياض ذوائبـي وثقل السنوات التي سبقتني وتبعتني يخولانني لأكون جدة الجميع، وإن فشل سكان الحِلة في تحديد عمري بالأرقام. أيضاً؛ لا تستطيع ذاكرتي الدقيقة، المفصلة، ولا حكمتي التي وهبني إياها القدير وربيتها على الخبرات ومرور الزمن أن تحدد عمري، كما لو أني ولدت هكذا منذ البدء؛ بشرية كهلة ضربت التجاعيد وجهها، شعر أبيض خشن أكرت مكوم فوق الرأس كما العمامة، وجسد نحيل بعصب شديد، لم تذهب أعباء الحياة ولا الوقت الذي يسرق العمر بقوته وبأسه.
لا التباس في كوني امرأة، ولست في عداد الإناث، فأنا حكّامة[1]؛ والحكّامة عادة مخلوق مغاير، فوق البشري، أعلى من المرأة قليلاً، تصطف قريباً من موقع الذكورة ولكنها تتجاوزه، وهي بعد كل تلك المواصفات، ليست ملاكاً، ولا خنثى، تجمع في كفيها فراشات ملونات، وتفيض على محيطها أمومة لا حدود لها، تحل الإشكالات العالقة بحسم الرجل وحكمة الأنثى، من دون سلطة غاشمة أو ثراء خادع فإن كلمتي غير قابلة للمراجعة أو المحاججة.
عرف أبـي ما سيكون من شأني منذ مولدي، قال إني جئت الحياة بعينين مفتوحتين ونظرة جسورة، فأسماني: "الرسالة". هيأني لدوري، أو فَرض علَيّ الدور؛ سيان، فها أنا ذا حكّامة. اسمي رائج في جبل مَرَّة، قلب دارفور الأخضر، حيث تسمّى البنات في بلدة الفاشر وسواها من نواحي دارفور الشاسعة باسم "الرسالة"، وقد لا يكنّ أهلاً له. لكن الاسم لبسني وبت جديرة به، ثم نسيه الناس واستبدلوا صفتي ومهامي الجسيمة به.
وضعتني أمي في زمن صعب تخلله محْلٌ شديد، يصيب المحل الفقراء بداية، وقد كنا كذلك، تثقل وطأة الفقر على أجسادنا الهزيلة وتتجاوز أرواحنا القادرة على فرح مجاني لا مبرر له. أبـي فقيه مجموعتنا الصغيرة الفقيرة عند سفح الجبل، "فكي"[2]على قدر ما أعطاه الله من علم القرآن، واحد من بين قلة من الرجال الذين يمتهنون عملاً، فهو معلم خلوة القرآن الذي لا يجد تلاميذُه ما يدفعونه له في زمن المحل. وككل المخلطين الذين تشابكت جذورهم، لا يمكن نسبنا إلى قبيلة بعينها عبر تتبع أرومة العائلة، لكننا نخترع لنا نسباً كيفما أردنا، حدث هذا في مجاعات سبقت مولدي وأخرى لحقت بـي، ولكن المرة التي وعيت فيها على مجاعة الرحيل مثلت انقلاباً في حياتنا، وحياتي تحديداً.
استفحل المحل عند السفح الفقير للجبل وفي الضواحي المتاخمة لبلدة الفاشر، حارت النفوس وخوت البطون، عصفت الطبيعة فرأينا جالوص بيوت الطين يتشقق عنا، والسقوف تنشلع تاركة إيانا في العراء، أرجف الخوف قلوبنا الحزينة، حملنا زاداً قليلاً ومصحفاً، ومسابحَ للذكر نكر حباتها بين أصابعنا متضرعين إلى الله، وسْحنا في البراري.
انتشرنا في الأرض تحت امتداد السماء الزرقاء وضربات سياط الشمس الموجعة، نبحث عن موقع نعيش فيه أو نعتاش بخيره، وما كنا نملك إلا ماشية قليلة، معرضة للوباء والموت بلا ماء ولا كلأ، بالكاد تسد عنـزاتنا رمق صغارنا بلبنها الشحيح، لم يكن لنا نصيب في السهول التي تُزرع بالدُّخن والذرة والسمسم، ولا تلك التي تغص بالتمباك، فما بالك بمزارع البطيخ الموسمية التي لا تحتمل مزيداً من الأنفار في غرب الفاشر.
طرد جبلُ مَرَّة الرافل بالخير فقراءَهُ، هججنا كي لا تتضرر مكاسب الأغنياء أو تقل حصصهم. لا يُطرد الفقير جهراً، لكن الحياة تضيق الخناق حوله حتى يختنق، وقد كان والدي وعائلته الصغيرة المكونة مني وأمي وأخ رضيع، ضمن مجموعة هجرت الجبل على خيره الكثير الذي لم يطلهم؛ هجت تبحث عن موقع في تلك البوادي الواسعة، مجموعة لم تحمل من انتسابها سوى بعض حكايات "الهدايّ"[3]الشاعر وقصص العجائز الحكّامات وهن يخترعن لنا أصلاً ونسباً.

