أنت هنا

قراءة كتاب بابنوس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بابنوس

بابنوس

كتاب " بابنوس " ، تأليف سميحة خريس ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

صرت الحكّامة بلا منازع في هذا الجمع، وقلت القصيد لأوافقهم على منصبـي الذي حددوه، ثم استمرأت الأمر، وتلذذت بنسج الكلام وعقده وحله، ونغمات القصيد ورجعه وصداه، بت أستمتع بعذب الحروف حين تتجلى من انحناءاتها روح المعنى في جمل بديعية، الشعر وحده قادر على إيقاظ روحي الشفافة وربطها بروح العالم، شعرت كما لو أن داخلي صوتاً حريرياً يتسلق الحروف ويكشف جمالها للعيون، وأن ناظريّ صارا أقدر على رؤية ومضات الحياة وألوانها، كما تدرب سمعي على التقاط أنفاس الدنيا وموسيقاها المذهلة، يمكنني سماع صوصوة قمري لم يفتح منقاره ولا أصدر صوتاً بعد، أسمع زقزقته المحبوسة في الصوت، في الصدر، في الوجود، كما أشعر برفة جناحه قبل أن يطير. وجدت مثل إحساسي بالكلمات في قصيد الولد "السر"؛ الشاعر البوهيمي الذي يسمع توبيخي إذا أكثر من المسكّرات فيعتذر مدركاً كم أحبه.

أنا صوفية في بقعة مضيئة داخلي، أكثر من "الزين" والد الشاعر "السر"، الذي يظلل الناس بحلقات الذكر، ويسليهم بالدوران، نلتقي جزئياً على حفظ آيات القرآن، ولكن تأويل ما أفهمه من الكتاب مختلف عما يفهمه.

أنا ابنة الحياة بلا منازع. مع ذلك؛ وبعيداً عن ظروف المكان ومكانتي الرفيعة ومحبة الناس المحيطة بـي، وهجوم المجاعات وانحباس المطر وهطوله؛ أحس بفراغ مخيف في أعماقي، كما لو كنت حقاً خارج منطق الحياة، بشرية لا أب ولا أم لي، أتذكرهما بالخير بين الناس، وغالباً ما أنساهما كما ينساهما كل الناس، فقد مضى زمن طويل طويل؛ أضعتهما في الذاكرة، لا أتذكر كيف كانت ملامح وجهيهما، ولا أي تفاصيل تعينني على معرفتهما بين جموع الناس مثلاً، لهذا أحاول تعويض تلك الهوة الخفية، بإسباغ أمومتي على العالم المحيط، واصطياد مودته الخبيئة، أقول لنفسي: أمي الحكمة، وأبـي القدر، وأنا أم الجميع.

مرت فوقي رياح الزمن وعركتني، هدأت غزالتي التي تكاد تطير في البرية، وتوقرت، صرت حكّامة أقرب إلى الكياسة وإن مارست اللهو الجميل، أشدو بكلمات الأغاني في الأفراح مادحة العروسين، يهز قرع دلوكتي أردافَ البنات ويدفع بصدورهن إلى الأمام وأقدامهن تتراجع في تواتر راعش في رقصة الترترة، أظل أنا الحكّامة الحكيمة، قد أصير نغماً خالصاً، ولكن المرأة في داخلي نائية عصية.

يمس تعب الناس قلبـي بحزن أجاهد في الامتناع عن التعبير عنه، أقول إن مداواته أَولى من ذرف الدمع تأثراً، ويخيل إلي أن كل وجع يشبه تماماً حالة المرأة في المخاض، وصياحها يقطع نياط القلوب، ولكن وراء الوجع صيحة طفل جديد، واستمرار للحياة. هكذا أحاول إخراج المتوجعين من أحزانهم.

أرمم بتعاطفي العملي معهم أوجاع روحي، "ست النفر" على بساطتها وسذاجتها تعرف ذلك عني؛ حتى لو لم تفصح. لقد تلقفتها طفلة، هي ابنتي عملياً، كانت شافعة صغيرة في التاسعة من عمرها حين ماتت أمها "تركية" ربيبتي الأولى، كانت رحمها الله تتشبث بصغيرتها كالمجنونة، تمنع عنها أي يد حتى يدي، بموتها انتقلت البنت إلى حضني.

تصاب "ست النفر" بحالات مس تصرعها وتتركها هامدة واهنة لأيام، عالجتها واحتضنت خوفها بالرقي وآيات الله، فكبرت بين ذراعَي ابنة أذود عنها بشراسة إذا لزم الأمر، أمنعها من المشاركة بلعبة "دنقري" التي تبدو لي فجة قميئة مخالفة لشرع القرآن، ولكني أترك لها مساحة كي تكبر مستقلة، تحملتُ اختلافها وقلة حيلتها، لم تغضبني بفهمها البليد، ووجدت لها في تنمية مهارات النسوة درباً يخفف انـزعاجي من عجزها عن التعلم كما الأطفال، تلك الغربة، وذلك القصور الذهني الطفيف؛ تتحمل مسؤوليته أمها الخائفة المرعوبة "تركية".

في شبابـي، وصل "ديقو" صياد النمور إلى الديرة، يحمل على ناقته بنتاً مغبرة نحيلة ببطن بارز، ظن كثيرون أنها خرساء، قال صائد النمور الغريب إن لها اسماً غريباً لم يعد يذكره، واسماً هيناً يمكننا مناداتها به؛ "تركية". قدرت السبب وراء اسمها، فقد كانت البنت بيضاء كأنها من الخواجات الذين نراهم يرافقون الصيادين وتجار الأبنوس والعاج، أو في باحات الكنائس في الفاشر ونيالا.

"تركية"، أُمّ "ست النفر" وجَدّة "بابَنوس"، لها شعر يميل إلى شقرة غريبة ملتبسة، كأن التراب يغطيه، بشرتها باهتة، أنفها عريض وشفتاها مكتنـزتان، وهذا كل ما تبقى من أصلها الإفريقي، مزيج فريد بين دم أبيض وآخر زنجي. في البداية لم أصدّق أن رجلاً مثل "ديقو" يحمل على ناقته بنتاً في العاشرة أو الحادية عشرة لشهور عديدة، يقول إن أمها حَمّلته البنتَ أمانة ليعيدها، يأتي بها قاطعاً نصف الدنيا من أوروبا البعيدة، ويجتاز مصر والسودان محاولاً الوصول بها إلى نيالا لإعادتها إلى أهلها من دون أن يعرف لهم اسماً ولا صفة واضحة، خاصة وهو لا يملك دلالة أو عنواناً أو اسماً يهتدي به، يصل صائد النمور وتاجر العاج بالبنت إلى ديارنا حبلى، ويتركها فلا يقايض بها ولا يطالب بمكسب، ويرضى بمشورتي بترك البنت في عهدتي، وعدم تعريضها لمخاطر المدينة الكبيرة نيالا، بدا الرجل مكتفياً بما قام به، ممتناً لعرضي، سارع "ديقو" إلى مغادرتنا كمن يفر من فعلة نكراء؛ واضحة جلية في بطنها المنفوخ أمامها.

رجحت أن "ديقو" هو الفاعل، خاصة بعد أن وُلدت "ست النفر" خلاسية مخلطة بين بياض أمها وزرقة أبيها.

لسِتّ النفر وأمها تركية تاريخ حافل محمل بالأسرار، أسرار يصعب الخوض فيها، لأن "تركية" لم تكن تجيد الكلام، وكانت لها رطانتها الغامضة التي لا تشبه أحداً، تحدث فيها ابنتها فقط، وقد قضت أعوامها التسع بيننا رابطة الطفلة على صدرها بخرقة كبيرة أولاً، ثم ممسكة بذراعها ملتصقة بها كيفما تحركت. حتى بيت الخلاء لم تدخله أيّ منهما بمفردها، رغم لطفنا وصبرنا تعاملتْ "تركية" معنا بحذر وذعر كأننا سنختطف صغيرتها، لم تندمج؛ ورحلت "تركية" بأسرارها التي لم تسلمها لنا ولا باحت بها بعدها ابنتُها، مع ذلك منحتني الصغيرة "ست النفر" هدنة مع الدنيا في وقت ما، ربيتها وفرحت بها، وتعهدت ضعفها حتى قويت، ثم زوجتها، لم أكن راضية تماماً. ولكنها بدت لي تختار شيئاً لأول مرة، وافقتها؛ وفرحتْ حين أنجبت "بابَنوس"، كأني صرت جدة للمرة الأولى، لست شريرة، إلا أني تمنيت، وفرحت سراً لأن زوجها رحل ولم يعد، في كل مرة يظهر بها أخاف أن يصطحبها معه بعيداً في حياته الشاقة، لكنه اختفى منذ أعوام، تركنا في سلام أسري رائق، أنا وربيباتي الحبيبات.

أرى صباي المندثر في بريق وشقاوة عيني "باسالم"، وحده يقدّر أني ما زلت صبية، أنا نفسي لا أعرف بداياتي، كأني وُجدت هكذا؛ نخلة عجوز مثقلة بالثمر، أضيف إلى لحائي كل يوم لحاءً جديداً، فتصير حكمتي ثخينة، وظلي وارفاً، وطعم بلَحي محيراً، يوقف المشتهيَ الجائعَ على مسافة بين التوق لتذوقه، والشبع من رؤيته.

ينطبق الأمر تماماً على "باسالم"، منذ عرفته وقف على مسافة مني، في عينيه يتلألأ توق لم يمت ولم يَخْبُ، ولم يُعلن كذلك، أقصى ما يفعله إخباري بين جد وهزل أنه قال قصيدة في منامه يصفني ويمتدحني، ثم نسيها عندما استيقظ، فأضحك؛ ويضحك الجالسون متهمين إياه بالكذب.

في فعاله عزوفٌ، إدراكاً لهول المسافة بيننا، تلك المسافة لم أصنعها أنا، ولا ابتدعها هو، ولكنه حين جاءنا يمانياً نحيلاً قصيراً، هائماً يبحث عن حاضرة نيالا، طامعاً بفتح دكانه فيها، ثم مغيراً وجهته إلى بقعتنا وقد أرهقته رياح شهر أمشير، لم يجد لدينا دكاناً. فكر أن العمل في تلك الزاوية المنسية من العالم سيكفيه ويعفيه من منافسة تجار المدينة، وسيسمح له بمراقبتي من بعيد؛ وقد فتنه قوامي الفتي المشدود بالثوب العاجي، وعقد لسانه انطلاق لساني.

الصفحات