أنت هنا

قراءة كتاب بابنوس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بابنوس

بابنوس

كتاب " بابنوس " ، تأليف سميحة خريس ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 3

نفخر أننا من نسل "المساليت" العظام، القبيلة الإفريقية العربية التي تسد جموعها عين الشمس، أولئك الذين روضوا الجوع والقيظ والهبوب الذي يركب الرياح الموسمية عاصفاً مغبراً، وامتزجوا عناصرَ بشرية شتى؛ بألوان عديدة، وأرواح صلبة الشكيمة، ولكننا وبقدرية لا يد لنا فيها؛ فقراء، لا نملك أرضاً ولا أنعاماً تعيننا، ولا لوناً صريحاً يساعدنا على الانتساب، منا خضر تفصح وجوههم عن العروبة، ومنا زرق تخلطوا بإفريقية واضحة، ومنا من يفج سواد جلده كما قلب الأبنوسة.

مرت شهور ونحن نسعى في سكة طويلة، أربعون إنساناً نسير على أقدامنا الواهنة "كداري"[4]؛ مخففين عن أنعامنا وطأة الطريق والجوع والتعب، يرافقنا جمل وحماران وعنـزتان، يسيح عرقنا على امتداد ظهورنا ثم يجف في جفاف الهواء، فنحكه بأعواد خشبية اقتلعناها من أشجار ميتة صادفتنا، توحي أنعامنا القليلة أننا أثرياء وسط هذا اليباب الموحش الفقير، بينما يفضح عرقنا على الأجساد العارية فقرنا.

ابتعدنا عن جبل مَرَّة وبلدة الفاشر كثيراً، مررنا بصحارى تسكنها الأفاعي، سلكنا دروباً جافة خوفاً من الحيوانات المفترسة، وتوقفنا في جنبات الغابات، فعملت النسوة والفتيان في موسم جني الصمغ أُجَراء لدى نفر من البيض والجلابة الشماليين منتجي الصمغ، الدندارية، الذين جاءوا من المدن إداريين وتجاراً ينقلون الخشب والصمغ ويديرون مجموع العاملين، يشترطون على أولادنا ارتداء لباس من قماش الدمور الخشن يستر عوراتهم أثناء خدمتهم، ولا يكتفون بحبل الرهط [5]الذي نـزنر به خصور النساء، يظنون أنفسهم في منـزلة أعلى من منـزلتنا، ونحن عند الله سواسية، نغتابهم في جلسات الونسة ساخرين:

- ود أبو جلبا، حبل القيطان،[6]كان لقيته في دكان يقول ليك: إذا كان.. وكان لقيته في غابة يقول ليك: يابه.. وكان لقيته وحيدا، ينطيك وليدا.[7]

لأني ابنة مقرئ القرآن، فقد كنت وأمي نرتدي صداراً قماشياً يستر أثداءنا، كما يلف الرهط خصرينا وينهدل من لحاء الشجر والأقمشة على ركبنا، بينما اكتفت النسوة بحبل رقيق علقت فيه بعض صفقات الشجر والحجارة الملونة، أكسبنا رداؤنا هيبة خاصة أكدت للجمع اختلافنا، لكن هذا لم يُعْفيِنا من العمل مع مجموعة النسوة، عملنا في ظروف صعبة فمنحونا لقاء تعبنا مالاً زهيداً تصبرنا به في مواسم الهجيج والجفاف، تقرحت أكعاب أقدامنا، وتشققت أكفنا؛ لكننا ابتعنا دقيقاً وذرة بما وفرته أيدينا من نقد. واصلنا الترحال آملين، وعندما حاذينا مركز الولاية جنوباً، قرب مدينة نيالا، توقفنا قليلاً نناقش ما إذا كان علينا دخول المدينة لنتعيش بمهن رخيصة ونتفرق بين أحيائها ودروبها، أو الاستمرار في السعي وصولاً إلى مصير مختلف! خفنا من ضياع واحدنا عن الآخر في فوضى المدينة الكبيرة.

كنت طفلة تخاتل الصبا حينها، وقلت بحكمة أعجبت السامعين:

- نلقى حتة تلمنا كلنا، لو تفرقنا نهون.

استجابوا لي رغم أني مجرد طفلة شافعة ينادونني باسمي: "الرسالة". بقينا معاً يسكننا حلم في إيجاد بقعة نصير أسيادها وتصير لنا وطناً، وصلنا إلى واد رملي منقطع مخبأ في جيب عند انحدار الأرض، بدا لنا المكان أليفاً برمله الناعم النظيف، أصيبت أغنامنا وأنعامنا وصغارنا بلوثة بهجة، فتعفروا بالرمل متدحرجين، اختلط ثغاء وضحك ونهيق، لهذا؛ ظننا المكان مراحاً لحرية وادعة بلا شروط.

عثرنا على تجمع شجري في شمال المراح الرملي؛ سدرتين، وثلاثة لالوبات، وتبلدية واحدة ضخمة فتية، لم يمسس جذعها المكور العظيم فأس، مغلقة غير مجوفة، إضافة إلى عدد من الشجيرات الشوكية المتناثرة التي أقبلت عليها العنـزة جائعة، وحَشّها الحماران والبعير والأطفال.

أوحى لنا التجمع النباتي بقرب الماء في تلك الواحة الخفيضة، رمى كبارنا المتعبون هياكلهم المضطربة الراجفة على الرمال الدافئة الناعمة تحت ظل الشجر، وأطلقوا ألسنتهم في التمني، قالوا:

- نحفر؛ تطلع مويه.

اشتكوا أنهم ما عادوا يملكون عصباً قوياً، ولا كراعين قادرة على مزيد من المشي، وأن الرضَّع التصقوا بصدور أمهاتهم، وانتفخت بطونهم بهواء فارغ، وكلّت أيديهم، وتكدر بياض أعينهم اصفراراً.

استرخينا، فغفت النسوة والأطفال في ظلال الشجر. كعادتي؛ جالست الرجال في حلقة الانداية وهم يشربون في قرعة مشتركة سائل المريسة، ويتلذذون بالبصل الملتوت بالشطة، ويلعبون لعبة الخَرْبَقَة التي تعلموها من التجار الذين سافروا في الماضي إلى سوق وادي سوف في الجزائر، وعادوا بتلك اللعبة يجزون بها الوقت الضائع أساساً.

خطّوا بأصابعهم سبعة أسطر أفقية فوق الرمل، وسبعة تقطعها لتنشأ تسعٌ وأربعون حفرة بين الخطوط، صفّوا بعر الإبل ومثلها من الحجارة في الحفيرات، وسمّوا فيالقَ البعر والحجارة بالــ"الكلاب"، ثم أطلقوا الكلاب تفتك ببعضها بعضاً وفق كر وفر وحصار متوهّم وهم يتضاحكون، الناظر إليهم في لحظات الأنس والتجلي لا يقدّر أنهم هاربون من ماضٍ أليم، ينتظرهم غد موحش. أبـي الفكيه الجاد والوحيد الذي يرتدي ثوب العّراقي قصيراً بأردان، داعبهم ساخراً:

- مادين كراعينكم، مرتاحين، تقول في بيت!

متكئة على فخذ أبـي، قلتُ:

- ليه ما يبقى هنا بيت؟

الصفحات