رواية " الرفيقة وداد " ، تأليف عماد محمود الأمين ، والتي صدرت عن
أنت هنا
قراءة كتاب الرفيقة وداد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ـ 2 ـ
تتربّع ضيعة فطر على سهلٍ فسيحٍ من منطقة جبل عامل، وتنتشر حولها ضيعٌ وبلداتٌ أخرى، تارةً في الأودية المجاورة، وطوراً على سفوح وقمم الهضاب، لتشكّلَ معاً نسيجاً جميلاً من الطّيبة والبراءة والعناد.
أمّا السّبب في إضفاء هذا الاسم غير المألوف على الضّيعة، فيُعيده النّاس إلى أنَّ الفطر ينبت كثيراً في ترابها، فترى الصّغار والكبار ينتظرون موعد الرّعد والبرق في شهري «كوانين» لينتشروا في الحقول وعلى التّلال، وأعينهم شاخصةٌ ﺇلى الأرض، يبحثون عن «فطروش ٍ» هنا أو هناك.
كانت تلك القرى تعتمد في معيشتها على زراعة التّبغ، يشارك أفراد العائلة جميعاً في مواكبتها بجهدٍ وتعبٍ على مراحل متقطّعةٍ من السّنة. فما إن تنتهي مرحلة تحضير المشاتل ونفّها بالبذور، حتّى يأتيَ، بعد أسابيع، موسم الزّرع، فتُقلع الشّتلات ويتمُّ زرعها في الأراضي المفلوحة جيداً والمثلّمة. ثمَّ بعد نحو شهرين، يأتي موعد قطاف الورقات، وشكّها واحدةً واحدة، بمساعدة مسلّاتٍ في خيطان مصّيص(2)، ثمَّ توضع تحت الشمس، وما إن تجفّ الورقات بعد أسابيع، حتّى تبدأ مرحلة التّصفيف(3)، فتُفرطُ من خيطانها وتُصفّفُ في مجموعاتٍ لتصبحَ جاهزةً للبيْع.
مرحلة الزّراعة هي الأصعب والأهمّ، والعامل المحوريُّ فيها هو «المنطعجيّ»، الّذي يجب أن يكونَ بالضّرورة رجلاً متين البنية، مفتول عضلات السّاعديْن، يستعمل الـ«منطاع» (4) لإحداث خرقٍ تلو الآخر في الثّلم، يملأها بالماء لتزرع الشتلات فيها. ويجب أن يكونَ باستطاعته المتابعة على هذا المنوال لساعاتٍ طويلة، وبئس العائلة الّتي ليس لديها منطعجيّ، لأنّها ستكون مضطرةً لاستخدام أحدهم بأجرةٍ مرتفعة.
إنّ مشاركة أفراد العائلة كافةً في هذه المرحلة إلزاميّة؛ فهناك من يهتمّ بإيصال الماء والشّتلات، ومن يحضّر الشّاي أو الطّعام، وكأنَّ العائلة خليّة نحل، تعمل بتنسيقٍ وتراتبيّةٍ ممتعيْن للنّظر.
وفي الأسابيع والشّهور الّتي تفصل مراحل العمل، كان العدد القليل من الأطفال الّذين يتابعون دراستهم يقصدون مدرسة القرية المتواضعة، إذ عليهم العمل في زراعة التبغ.
في الخمسينات من القرن الماضي كانت هذه القرى الفقيرة مهملةً منسيةً من الدّولة، فلم يكن في المنطقة كلّها إلّا طبيبٌ واحدٌ متواجدٌ في البلدة الأكبر والّتي هي عاصمة القضاء. أمّا المدرسة فقد كانت عبارة ً عن غرفةٍ واحدةٍ تُجمع فيها كلُّ الصّفوف، حيث كان الأستاذ الوحيد في القرية يشرح درس الجغرافيا للجهة اليمنى من الصّفّ، وتكون الجهة اليسرى منهمكةً بحلِّ مسألةٍ في الرّياضيّات، والجهة الوسطى تطالع نصّاً باللّغة الفرنسية.