رواية " الرفيقة وداد " ، تأليف عماد محمود الأمين ، والتي صدرت عن
أنت هنا
قراءة كتاب الرفيقة وداد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ـ 3 ـ
وداد، فتاةٌ متوقّدة الذّكاء، واثقةٌ من نفسها، ما رآها أحدٌ إلّا وأُعجب برصانتها وهدوئها. ومنذ وفاة والدها وهي طفلة، عانت الأمرّيْن من ظلم أعمامها، الّذين كانوا يعرفون في قرارة أنفسهم أنّها لا تمتُّ إليهم بصلة قربى، وأنَّ ما يتداوله النّاس حول حمْل أمّها من الجار صحيح. ولهذا كانوا لاينفكّون يعاملونها كالغريبة ولا يمدّون يد العوْن لها ولوالدتها، فاعتادتا العيْش في كوخهما الصّغير، تقتاتان من عمل الأمِّ في خدمة البيوت.
إلّا أنَّ التّفاؤل بالحياة الجميلة لم يفارقها قطُّ، وعرفت كيف تجعل ابراهيم يقع في شباكها، بتوجيهٍ ومتابعةٍ دقيقةٍ من أمّها، الّتي وجدت في الشّابِّ صفقةً جيدةً أرادت من خلالها مصاهرة بيت المختار والزواج من المدرّس الميسور، وإثبات هويّة ابنتها في الوقت نفسه.
وبزواجها من ابراهيم، انتقلت وداد من حياة الفقر والهوان إلى الحياة الرّغيدة الكريمة، ولكن، مضت ستّة أشهرٍ ولم تظهر عليها بوادر الحمْل، وبدأت دورة معاناتها الثّانية.
وها هي، بعمرها الّذي لم يتجاوز السّبعة عشر ربيعاً، وبشعرها الأملس الأسود وعينيْها اللّوزيّتيْن الخضراويْن اللّتين تضفيان على وجهها الأسمر جاذبيّة مميّزة، تصبح سيرتها سريعاً على لسان كلِّ امرأةٍ في القرية، بالهمس في البداية، ثمَّ جِهاراً على مسمعها. كان الكلام من الحاسدة الّتي كانت ترغب بابراهيم زوجاً لابنتها، إلى الشّامتة بنَسَبِها المشكوك فيه، أو المتهكّمة بالشّبه الكبير بينها وبين جارهم القريب.
وها هي تجد نفسها مشروع ضحيةٍ لهذا المجتمع الذّكوريّ، الّذي لا يعترف بأنّ هناك رجلاً عاقراً، بل هناك فقط نساءٌ عاقرات. وها هم رجال القرية ينقسمون حولها، بين أكثريّةٍ جاهلةٍ تعتبرها نصف امرأة، وأقليّةٍ متنوّرةٍ تقف في صفّها، وإن كانت أكثريّتهم تمنّي النفس أن تقعَ عليه القرعة فتختاره لإخصابها.
وها هي أمّها تشعر بمهزلة مأساتها الّتي تأبى أن تفارقَها، فتعود لتحطَّ على ابنتها، فهل ستتركها تنتظر أيضاً سنواتٍ من العذاب لتتصرّف؟ فأيُّ لعنةٍ هذه التي تستعيد ماضيها، وأيُّ مهزلة هذه التي تطوّق حاضرها! وأدركت بسرعةٍ أنّه لابدَّ من الإسراع، فخير البرِّ عاجله. وأسرّت لابنتها بالوصفة السّريّة إذا ما طال الأمر. ولكنَّ وداد رفضت رفضاً قاطعاً في البداية، ثمَّ بدأت تلين مع الوقت، وتركت لنفسها فرصة سنةٍ بعد الزّواج قبل أن تعملَ بنصيحة أمّها، وإن كان الشّكُّ قد بدأ يتسرّب إلى ذهنها. ماذا لو كانت عاقراً فعلاً؟
كان والد زوجها أكثر ما يعزّيها في محنتها، لقد أحبّها كابنته، ولم يكن يسمح، على الأقلِّ أثناء وجوده، أن يُوجَّهَ إليها أيُّ كلامٍ مُهين. وكان يفاتحها بالموضوع كلّما سنحت له الفرصة، ناصحاً إيّاها بالصّبر وعدم التّوتر. ومع أنّه باشر ببناء منزلٍ لها ولابنه، وأصرَّ قبل البدء بإنشائه أن يسجلَه لها كعربون محبّة، إلا أنّه ظلَّ يتمنّى أن تبقى قربه ولا تبتعد عنه أبداً.
أما ابراهيم، فلم يكن يكترث لكلِّ ما يُقال، وكأنَّ الأمر لايعنيه، صار يهملها وتحوّل من رجلٍ محبٍّ لزوجته، شغوفٍ بها، إلى أنانيٍّ كلُّ همّه حياته الشّخصيّة. كان مثالاً للرّجل المتفاني في عمله، وغالباً على حساب حياته الزّوجيّة ثمَّ العائليّه في ما بعد. يقضي جزءاً كبيراً من وقته بعد انتهاء الدّوام في المدرسة، يتابع أحوال التّلاميذ وتطوّرهم، فلم يرسب عنده تلميذ ٌ إلّا نادراً. أمّا الوقت المتبقّي عنده، فكان يكرّسه للنّشاط الحزبيّ، أو للمشاركة في النّدوات الشّعريّة والأدبيّة، أو ارتياد المقهى الوحيد في القرية حيث يمارس هوايته في لعب الورق.
لم يناقش معها يوماً موضوع حملها، ولم يحاول الحديث عن الذهاب إلى طبيب. ربّما لأنّه كان يعرف في قرارة نفسه أنّه يعود، على الأرجح، إلى أدائه الجنسيِّ المشين، بل تابع اهتمامه بمشاغله الأخرى غير آبهٍ بالمعاناة الّتي تمرُّ فيها. لم يكن يعلم أنّه يزرع في قلبها بذرةً من الضّغينة، ويتركها تنمو وتتغلغل في كلِّ جزيئات جسمها، وأنَّ حقد المرأة المكبوت لا بدَّ وأن ينفجرَ يوماً ما، وفي مكانٍ لن يتوقّعَه، وربّما لن يعرفَ به أبداً.