أنت هنا

قراءة كتاب السعادة الزوجية وبوليكوشكا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السعادة الزوجية وبوليكوشكا

السعادة الزوجية وبوليكوشكا

الروايتان " السعادة الزوجية وبوليكوشكا " ، تأليف ليو تولستوي ، اصدار

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

ان سيرغي ميخائيلوفتش هو أحد جيراننا القريبين وهو صديق المرحوم أبي، رغم أنه أصغر سناً منه. وعدا أن مجيئه يبدل مشاريعنا ويؤمِّلنا في الرحيل عن الريف، فقد تعوّدت منذ طفولتي أن أحبه وأن أحترمه. صدق ظن كاتيا: إن سيرغي ميخائيلوفنا هو، من بين جميع من لنا بهم علاقة، الشخص الوحيد الذي لا أحب أن أظهر أمامه بمظهر غير مستحب. كان جميع من في المنزل، من كاتيا وربيبتها صونيا، الى آخر حوذي، يحبه بحكم العادة، أما في نظري أنا فكان يمثل شيئاً آخر يختلف كل الاختلاف، وذلك بسبب كلمة قالتها أمي في حضوره، إذ أفصحت عن أمنيتها في أن تراني أتزوج رجلاً مثله. وقد بدا لي الأمر في ذلك الحين باعثاً على الدهشة، بل لقد صدمني صدماً. فبطلي كان يختلف عن هذا الرجل كل الاختلاف. كان بطلي نحيفاً، ممشوقاً، شاحباً، حزيناً. أما سيرغي ميخائيلوفتش الذي تخطى ريعان الشباب، فقد كان مديد القامة بدين الجسم دائم المرح في ما يبدو لي. ومع ذلك كانت هذه الكلمات التي قالتها أمي لا تبارح خيالي، حتى لقد كنت، قبل ست سنين، وأنا في الحادية عشرة من عمري، حين كان يخاطبني بصيغة المفرد، ويلعب معي، ويلقبني بلقب «البنت البنفسجة»، كنت أتساءل بشيء من الخوف ما عساني أفعل إذا هو رغب فجأة في أن يتزوجني!

وصل قبل موعد العشاء (الذي أضافت اليه كاتيا حلوى بالقشدة وسبانخ بالمرق). وقد رأيته من النافذة مقبلاً نحو المنزل في زلاجة صغيرة، ولكن ما إن انعطف عند ركن الشارع حتى هرعت الى الصالون لأتظاهر بالمفاجأة. غير أنني حين سمعت صوته الرنان ووقع خطوات كاتيا في الصالون لم أطق صبراً فهرعت الى لقائه. كان ممسكاً يد كاتيا، ويبتسم بصوت قوي. فلما رآني صمت وتأملني لحظةً من دون أن يحييني. فشعرت بحرج، وأحسست بالحمرة تصبغ وجهي.

قال بلهجة بسيطة جازمة وهو يباعد ذراعيه ويقبل عليَّ:

- آ... هل يعقل أن تكوني أنت؟ هل يجوز للإنسان أن يتغيّر هذا التغيّر؟ ما أكثر ما كبرت! بنفسجة حقاً! أصبحت وردة حقاً!

وبيده الضخمة، شدَّ علي يدي شداً فيه مودة، ولكن فيه من القوة ما كاد يؤلمني. وحسبت أنه يهم أن يقبِّل يدي، فاقتربت منه، لكنه اكتفى بأن ضغط أصابعي وحدَّق الى عينيَّ بنظرته الحازمة الفرحة.

لم أكن قد رأيته منذ ست سنين. لقد تغير وشاخ، واسودَّ جلده، وصار له عارضان لا يناسبان وجهه البتة. ولكن سيرغي ميخائيلوفتش لا يزال يحتفظ ببساطة حركاته، ولا يزال يحتفظ بوجهه الطلق ذي القسمات الضخمة قليلاً، والعينين المتقدتين ذكاءً، والابتسامة الدمثة التي تكاد تكون ابتسامة طفل.

وما انقضت دقائق خمس حتى أصبحنا لا نعده زائراً، وانما نعده واحداً منا. فكذلك كان شعورنا جميعاً، بل كذلك كان شعور الخدم أيضاً. فلقد كان واضحاً من طريقتهم في خدمته أنهم مبتهجون بمجيئه أعظم الابتهاج.

لم يتصرف كما يتصرف أولئك الجيران الذي كانوا إذا زارونا بعد موت ماما يعتقدون بأنهم مضطرون إلى التزام الصمت وذرف الدموع. بالعكس: كان متدفق الكلام، شديد المرح، لم يشر الى وفاة ماما بكلمة واحدة، حتى إن قلة الاكتراث هذه قد بدت لي في أول الأمر مستغربة لا يليق أن تصدر عن صديق حميم مثله. لكنني أدركت بعد ذلك أن سلوكه هذا لم يكن قلة اكتراث بل كان صراحة، فكنت ممتنة شاكرة. وفي المساء جلست كاتيا في مكانها القديم من الصالون لتقديم الشاي، وهو المكان الذي كانت تجلس فيه أثناء حياة ماما. وجلسنا أنا وصونيا بقربها. وجاء غريغوار العجوز الى سرغي ميخائيلوفتش بغليون بابا القديم، بعد أن بحث عنه واهتدى إليه لهذه المناسبة، وأخذ صديقنا يذرع الغرفة على عهدنا به في الماضي.

قال وهو يتوقف عن سيره:

- ما أكثر ما حدث في المنزل من تغيرات هائلة إذا فكر الإنسان في الأمر!

فقالت كاتيا متنهدة وهي تعيد الى السماور غطاءه:

- نعم!

ونظرت الى ضيفنا وهمََّت أن تبكي!

واستأنف سرغي ميخائيلوفتش كلامه متجهاً إليَّ:

- أظن أنك تذكرين أباك؟

فأجبته:

- قليلاً جداً.

فهمهم يقول وهو ينظر إليَّ شارد اللب، ويسرِّح طرفه في ما فوق عينيَّ:

- ما كان أعظمه من خير أن يكون الآن حياً يعيش معكم.

ثم أضاف يقول بصوت أخفت أيضاً:

- لقد كنت أحب أباك حباً عظيماً.

وخيِّل إليَّ أن عينيه التمعتا مزيداً من الالتماع.

قالت كاتيا:

- وها قد حرمنا الله منها هي أيضاً!

ثم سرعان ما وضعت المنشفة على غلاية الشاي، لتخرج منديلها وتنفجر باكية. فعاد سرغي ميخائيلوفتش يقول وهو يشيح وجهه:

- نعم! يا لها من تغيرات رهيبة تلك التي حدثت في هذا المنزل!

وأردف يقول بعد صمت قصير:

- صونيا، أريني لعبك!

وخرج.

الصفحات