أنت هنا

قراءة كتاب السعادة الزوجية وبوليكوشكا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السعادة الزوجية وبوليكوشكا

السعادة الزوجية وبوليكوشكا

الروايتان " السعادة الزوجية وبوليكوشكا " ، تأليف ليو تولستوي ، اصدار

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

- نعم، نعم، «هناك ما يسوِّغ». انك لفتاة رائعة. وإني لحريص على أن أقول لك ذلك.

ولماذا كنت أنال تلك المكافآت التي كانت تملأ قلبي اعتزازاً وفرحاً؟ لانني أزعم مثلاً أنني أفهم حب جريجوار العجوز لابنته الصغيرة، أو لأنني أتأثر الى حد الدموع بأبيات من الشعر أو برواية من الروايات، أو لأنني أفضِّل موتسارت على شولهوف. وكنت أستغرب أنا نفسي تلك الغريزة الخارقة التي كانت تتيح لي أن أدرك ما هو حسن، وأن أحب ما يجب أن أحب، على حين أنني كنت أجهل كل الجهل ما هو حسن وما هو جدير بالاهتمام. كان جل عاداتي القديمة لا يرضيه، فكان يكفي أن يدلني بحركة من حاجبه، أو بنظرة من عينيه، أو بمط شفتيه مطاً يدل على شيء من الاشمئزاز، معبراً بذلك عن أنه لا يؤيد ما سوف أقول، كان يكفي هذا حتى يبدو لي فعلاً أن ما كنت أحبه قد أصبح لا يعجبني. وكان يتفق في بعض الأحيان أن يهمَّ بابداء ملاحظة من الملاحظات، فإذا أنا أعرف ما سيقوله من قبل أن يقوله. وكان حسبه أن يلقي عليَّ سؤالاً وأن ينظر الى عينيَّ، فاذا بنظرته توقظ في نفسي الفكرة التي يتوقعها هي نفسها. جميع أفكاري وجميع عواطفي حينذاك لم تكن أفكاري أنا وعواطفي أنا، وإنما هي أفكاره وعواطفه التي صارت أفكاري وعواطفي على حين فجأة، ونفذت الى حياتي فأضاءتها. ومن دون أن أشعر أصبحت أرى جميع الأمور رؤية جديدة، سواء أكانت تتصل بكاتيا، أم بخدمنا، أم بصونيا، أم بي وبمشاغلي. الكتب التي كنت حتى ذلك الحين لا أقرأها إلا دفعاً للضجر ومنعاً للسأم أصبحت فرحاً من أكبر أفراح حياتي، لا لشيء الا لأننا تبادلنا بعض الأحاديث عن الكتب، أو قرأناها معاً، أو جاءني ببعضها. قبل ذلك كانت الدروس التي أعطيها لصونيا التزاماً ثقيلاً ومهمة شاقة أقوم بها مضطرةً وأتولاها شعوراً مني بالواجب. فلما حضرها سرجي ميخائيلوفتش مرةً، أصبح التقدم الذي تحققه صونيا في دراستها فرحة كبرى لي. كان تعلم معزوفة موسيقية جديدة يبدو لي أمراً مستحيلاً، أما الآن فلعلمي بأنه سيسمع عزفي أصبحت أكرر التمرن على مقطع واحد أربعين مرة، حتى صارت المسكينة كاتيا تسد أذنيها بقطن. ولكني أثابر في غير كلل ولا ملل. وأصبح للسوناتات القديمة رنين آخر، أصبحت أعزفها عزفاً مختلفاً، عزفاً أحسن كثيراً. حتى كاتيا التي كنت أعرفها وكنت أحبها كنفسي تبدلت الآن في نظري. في ذلك الوقت انما أدركت أن لا شيء يجبرها على أن تخدمنا كأم وكصديقة وكخادمة، وأدركت كل ما تتصف به تلك الانسانة المحبة الودود من روح التضحية والبذل والاخلاص، وأدركت كل ما أنا مدينة لها به. فما زادني ذلك إلا حباً لها وتعلقاً بها. وإن سرجي ميخائيلوفتش أيضاً هو الذي علَّمني أن أنظر الى خدمنا وفلاحينا نظرةً جديدة تختلف عن نظرتي الأولى. كنت حتى ذلك الحين، أي حتى السابعة عشرة من عمري، أعيش بين هؤلاء الناس غريبةً عنهم، لا يجمعني بهم شيء سوى ما يجمعني بأناس لا أراهم ولا ألقاهم. ما من مرة خطر ببالي أن هذه المخلوقات تحب أو ترغب أو تتألم مثلي. وحديقتنا وغاباتنا وحقولنا التي أعرفها منذ زمن طويل صارت عندي جديدة رائعة. ولم يذهب سدى قول سرجي ميخائيلوفتش أن أكبر سعادة في هذه الحياة هي أن يعيش الانسان في سبيل غيره. لقد استغربت قوله هذا في حينه ولم أفهمه. ولكن هذه العقيدة تسللت الى قلبي من دون أن يتدخل في ذلك عقلي. كشف لي سرجي ميخائيلوفتش عن عالم كامل من الأفراح في الحاضر، من دون أن يبدِّل من حياتي شيئاً، ومن دون أن يضيف الى مشاعري كلها شيئاً الا نفسه. منذ طفولتي كان كل شيء حولي يبدو لي أخرس، والآن يكفي أن آراه حتى ينطق كل شيء بليغاً كل البلاغة، فينبجس في نفسي ألف شعور، ويفيض قلبي سعادة.

وكنت في ذلك أثناء الصيف أصعد الى غرفتي أحياناً كثيرة، وأستلقي على سريري، فلا أشعر بما كنت أشعر به في الربيع من قلق وغَمّ، وإنما تغزوني رغبات قوية وآمال مشرقة، وتستولي عليَّ سعادة الحاضر العارمة، فلا أستطيع أن أنام، فأنهض عن سريري، وأمضي أجلس على سرير كاتيا، فأقول لها إنني سعيدة كل السعادة، وهذا ما أحس أنها لم تكن بحاجة الى أن أقوله لها، لأنها كانت تستطيع أن تلاحظه من تلقاء نفسها، ولكنها كانت تقول إنها لا ترغب في شيء، وتؤكد أنها سعيدة جداً، وتقبّلني، وكنت أصدِّقها، وكان يبدو لي أنه لا بد أن يكون جميع الناس سعداء، وأن من العدل أن يكون جميع الناس سعداء. ولكن كاتيا كان من حقها أن تنام أيضاً، حتى لقد كان يتفق أن تتظاهر بالغضب فتطردني عن سريرها وتنام. أما أنا فآخذ أستعرض في سريري أسباب سعادتي. وقد أنهض أحياناً لأصلي، مرتجلة صلواتي، فأحمد الله على ما خصني به من سعادة عظيمة.

ويكون كل شيء في الغرفة صمتاً. فلا يُسمع فيها الا تنفس كاتيا هادئاً ساجياً، وصوت دقات الساعة الصغيرة المعلقة بالحائط. وألتفت، وأهمس بابتهالاتي، وأرسم شارة الصليب، أو أقبِّل الصليب الذي أحمله في عنقي. وتكون الأبواب موصدة، وتكون النوافذ مغلقةً مصاريعها، وتدندن ذبابة أو بعوضة. وأتمنى أن لا أترك هذه الغرفة أبداً. وأود أن لا يطلع الصبح، حتى لا يتبدد هذا الجو الذي يغمرني. وتتراءى لي أحلامي وخواطري وصلواتي أشبه بكائنات حية تهوِّم حول سريري أو تقف بجانبي. إن كل فكرة تخطر ببالي هي فكرة له، وان كل عاطفة أحسها هي عاطفة منه. وكنت أجهل حينذاك ما الحب، وكنت أظن أن هذا يمكن أن يبقى وأن يدوم، وأن هذا الشعور يوهب للانسان وهباً.

الصفحات