كتاب " العالم رحلة " ، تأليف عبدالله مناع ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب العالم رحلة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عندما جلست إلى جواره.. في الطريق من المطار إلى "الفندق" وضعت سؤالي.. بشكل مباشر؟ فقال: نعم..!! ثم روى لي طرفاً مقتضباً من حياة والده الذي خدم على امتداد حياة المغفور له الملك عبدالعزيز في أكثر من موقع.. كان آخرها: مدير الأمن العام، إلى أن توفاه الله تعالى قبل شهور من رحيل المغفور له الملك عبدالعزيز وبعد قرابة عام من تقاعده.
إن الأستاذ محمد المهدي.. يمثّل بحق الرجل "الجنتلمان": الأنيق الملبس والعبارة.. الذكي في اختيار ما يقول والصمت عما لا يريد.. والعزوف عن الصحافة والأضواء إلى الحد الذي جعله يمتنع عن إهدائي صورة لوالده وله عندما علم بأن واحداً من أهداف استهدائي له هو غرض النشر في الصحافة.
ثم كانت مفاجأتنا الثانية.. عندما أخبرنا الشيخ صالح أوزجان.. بأن موعد "الندوة" تأجل لخمسة أيام وذلك بسبب انشغال كثير من الرسميين الأتراك باجتماعات حلف "الناتو" الذي تُولي تركيا عضويتها فيه اهتماماً متزايداً بعد أن دخلته بشهادة بلائها الحسن في الحرب الكورية وليس قبل، لتكون الدولة الإسلامية الوحيدة فيه رغم أن مقدمة ميثاق الحلف تقول بأنه يقوم من أجل الدفاع عن الغرب "المسيحي" ودوله، وقد استطاع – الشيخ صالح أوزجان – أن يعدّ برنامجاً سريعاً ممتلئاً بزيارات متلاحقة لعدد من المؤسسات الأكاديمية والصحافية والمراكز ومدارس تعليم اللغة العربية ومدارس تحفيظ القرآن التركية وتلك التي تتبع جمعية الصداقة العربية السعودية - التركية المشتركة.
وبالتأكيد.. فإن زائر "استانبول" قد ينسى بعض مشاهداته وبعض أيامه ولياليه.. ولكنه أبداً لن ينسى "البوسفور" وضفافه وزرقة مائه وجسره المعَلَّق.. ولن ينسى قصور "يلدز" و"توب كابي" و"دولما بخش".. ولن ينسى المسجد الأزرق أو مسجد السلطان أحمد ومكتبة السليمانية التي تعتبر بحق أم مكتبات العالم أجمع.
إن المسجد الأزرق – والذي يُعرف بمسجد السلطان أحمد 1616م – هو قمة قمم عمارة المساجد الإسلامية جمالاً وفخامة وترفاً.. وهو شهادة على عظمة الإمبراطورية العثمانية التي سميت باسم مؤسسها السلطان "عثمان أرطغرل" 1299م – في مرحلتها الأناضولية البلقانية، والتي اتسعت في عهد السلطان سليم 1512م لتصبح بلقانية آسيوية أفريقية، ثم لتبلغ أوج مجدها في عهد سلطانها العاشر سليمان القانوني (1520م) عندما أصبحت إمبراطورية أوروبية آسيوية أفريقية، وبقدر ما كان المسجد الأزرق شاهد عظمة على دولة الإمبراطورية.. بقدر ما كان قصر "دولما بخش" بذهبه وفضته ورخامه وكريستاله وبذخ عمارته شاهداً حياً على أسباب زوال الدولة ومجدها..!!
إن المسجد الأزرق – أو مسجد السلطان أحمد – يقع في الجزء الأوروبي من استانبول إلى جانب مسجد "آيا صوفيا" وقصر "توب كابي".. وقد كان أحد أسباب بنائه هو منافسة عمارة كنيسة القديسة "صوفيا".. التي تحولت على يد محمد الفاتح إلى مسجد آيا صوفيا – وقد قيل إن السلطان أحمد طلب من المعماري الذي كلفه ببناء المسجد أن يبني منائره من الذهب الخالص، ولكن المعماري – وربما آخرون معه – لم يجدوا أن ذلك ممكناً – وفي الوقت نفسه لم يجرؤ المعماري على الإفصاح للسلطان باستحالة بناء المنائر من الذهب الخالص. وفضَّل أن يستفيد من التشابه بين كلمتي "ذهب" و"ستة" باللغة التركية – إذ إن الأولى تعني ALTIN بينما الثانية تعني ALTI فاعتمد بناء ست منائر بدلاً من خمس كما هو العرف في بناء المساجد الكبيرة.. لتكون منائر مسجد السلطان أحمد الست هي إحدى مميزاته وتفرده.
ويمتلئ المسجد الأزرق بثلاثين قبة صغيرة محمولة على ستة وعشرين عموداً.. تتوسطها قبة كبرى يبلغ طول قطرها ستة وثلاثين متراً (لا يوجد خطأ في الرقم).. وتغطي جداره وأعمدته آيات قرآنية ونقوش تحير العقول في دقتها وجمالها وإعجاز تنفيذها، على أن الأجمل من هذا كله.. أن الصلوات الخمس تقام فيه على مدار أيام الأسبوع إلى جانب الجُمَع والعيدين.
* * *
وفي المساء تعهَّدنَا وكيل وزارة المالية لشؤون الجمارك.. عندما دعانا إلى اللقاء في أحد المطاعم التركية التي تقدم إلى جانب العشاء برنامجاً موسيقياً "محتشماً" – كما قال عند توجيه دعوته – وقد لبى أعضاء البعثة جميعاً الدعوة.. لنفاجأ في البداية بأن وكيل الوزارة – الأستاذ يحيى أمان – أديب وروائي قدم له التليفزيون والسينما التركية عدداً من أعماله.. وأنه يضع اللمسات الأخيرة على قصة حياة "رابعة العدوية" ليقدمها التليفزيون التركي على شاشاته.. والأكثر من هذا أنه شاعر غنائي يكتب بين الحين والآخر بعضاً من تلك الأغنيات التركية.. التي نشعر بما فيها من شجن من دون أن نفهم معاني كلماتها، وكان ترتيباً منه.. أن نستمع في ذلك المطعم لأغنية من أغانيه. لقد كان بحق مضيفاً مريحاً يتجنب الإثقال بالكلام على ضيوفه. لكنه – هو الآخر – كان يدّخر لنا مفاجأة – عندما عرَّفنا إلى مدير عام مصانع التليفزيون التركية والتي يتم إنتاجها محلياً بأيدٍ وخامات تركية.
قد لا تكون هذه مفاجأة.. ولكن المفاجأة هي أن هذه المصانع تنتج نصف مليون جهاز سنوياً يتم امتصاصهم في السوق المحلية (عدد السكان في تركيا 55 مليون نسمة). وأن أول شحنة تصدير يتم الاتفاق عليها.. ستكون إلى الجزائر.
في اليوم الثالث أو الرابع من أيامنا في "استانبول" فاجأنا الشيخ صالح أوزجان بـ "اقتراح" لزيارة "جمهورية قبرص التركية" لـ "السياحة" ليومين أو ثلاثة.. ولكننا استطعنا أن نتخطى هذا الاقتراح المفاجأة بتفضيلنا البقاء في "استانبول" لأنه ما زال فيها الكثير والكثير مما لم نره بعد، ولعل مكتبة السليمانية كانت في مقدمة هذا الكثير الذي لا يصُحّ تجاوزه.. خاصة وأن شيخنا الحبيب "حمد الجاسر" قد نصحنا بزيارتها.. بل وأغرانا بذلك من حيث لا ندري من خلال ذكرياته معها و"فيها".
ومكتبة السليمانية.. هي واحدة من أقدم المكتبات في العالم.. فقد أمر بإنشائها السلطان سليمان القانوني في العام 1549م، واستغرق إنشاؤها ثماني سنوات.. لتحمل اسمه في ما بعد.. ولتصبح اليوم معلماً يحج إليه المثقفون والدارسون والباحثون وطلبة العلم بمختلف لغاته (لغات المكتبة هي: العربية والتركية والفرنسية والإنجليزية والروسية والألمانية).
إن مكتبة السليمانية.. تشبه القصور العثمانية: ضخامة.. ودور العلم: بساطة.. وتضم مائة وثلاث مكتبات وخمساً خارج مبناها.. وهي بحق واحدة من مراكز الإشعاع في العالم، فطلبات الاستعارة والتصوير للمخطوطات تأتيها من جميع أنحاء العالم، ومع قِدمها.. إلا أنها تعمل بأكثر الأساليب حداثة وعصرية.. ففيها نظام حراسة إليكتروني.. ونظام المايكروفيلم.. وغرف مخطوطاتها مزودة بأجهزة تحافظ على درجة الحرارة في داخلها ما بين 24-10 درجة مئوية ودرجة الرطوبة بين 50و55 في المئة، وفيها معمل فني فريد.. لترميم المخطوطات.. وفيها ذخائر ونفائس العقل البشري وفيها نسخة من القرآن الكريم مخطوطة في القرن الهجري الأول.. وفيها نسخ عديدة وفريدة للقرآن الكريم بخطوط مشاهير الخطاطين العرب والمسلمين.
إنها بحق عالم عظيم.. وجميل قد يكفيه الحد الأعلى الذي ذكره شيخنا الحبيب الأستاذ حمد الجاسر عندما ذهب مرة لزيارتها فقال لصديقه وهو يودّعه في أنقرة: سأذهب إلى استانبول.. إلى مكتبة السليمانية.. وقد أبقى يومين.. أو أسبوعين.. أو شهرين!!
إن مكتبة السليمانية.. هي إضافة عقلية لـ جمال "استانبول".
في القصــر
المملوء بهجة..؟!