أنت هنا

قراءة كتاب المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول

المجتمع المفتوح وأعداؤه - الجزء الأول

كتاب " المجتمع المفتوح وأعداؤه -  الجزء الأول " ، تأليف كارل بوبر، اصدار دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، نقرأ نبذة عن الكتاب :

 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

يتبادر إلى الذهن في معظم الأحوال أن شكلاً أو آخر من الشمولية أمر لا يمكن تفاديه. فالعديد من المثقفين يرون أنه أمر لا مفرّ منه. ويتساءلون عمّا إذا كنا من السذاجة بحيث نتقبّل فكرة أن النظام الديموقراطي قابل للاستقرار، وعما إذا كنا نرفض أن يكون هذا النظام هو أحد الأشكال المتعددة للحكم الذي يأتي ويمضي في مسيرة التاريخ الإنساني. وهم يجادلون بأن الديموقراطية، لكي تجابه الشمولية، ملزَمة بأن تحاكي مناهجها، ومن ثم أن تصبح بالتالي شمولية. وهم يقرّرون أن نظامنا الصناعي لا يمكنه أن يستمر في أداء وظيفته من دون تبنّي طرق التخطيط الجماعي، ويستدلون بذلك على صعوبة استمرار النظام الجماعي الاقتصادي دون أن يتبنّى الأشكال الشمولية للحياة الاجتماعية.

وقد تكون مثل هذه الحُجج مقبولة إلى حدٍّ كبير. بَيْدَ أن القبول لا يُعَد دليلاً يمكن التعويل عليه في مثل هذه المسائل. ففي الواقع لا يتعين على المرء أن ينخرط في مناقشة هذه الحجج المشكوك فيها قبل النظر في السؤال التالي الذي يطرحه المنهج العلمي: هل في مقدور أي علم اجتماعي أن يُجري مثل هذه التنبؤات التاريخية الشاملة؟ هل في مقدورنا أن نتوقع الحصول على أكثر من إجابة من عرَّاف إذا سألناه عمّا قد يخبِّئه المستقبل للجنس البشري؟

هذا سؤال عن منهج العلوم الاجتماعية. ومن الواضح أنه سؤال أساس أكثر من أي نقد لأي حجّة مقدمة لدعم أي نبوءة تاريخية.

ولقد أدى بي الفحص المدقِّق لهذا السؤال إلى القناعة بأن مثل هذه النبوءات التاريخية الشاملة إنما تقع كلية خارج نطاق المنهج العلمي. فالمستقبل يعتمد علينا، ولسنا معتمدين على أية ضرورة تاريخية. ومع ذلك ثَمّة فلسفات اجتماعية مؤثرة تتمسّك بوجهة النظر المقابلة. إنها تزعم أن الإنسان يحاول أن يستخدم عقله للتنبؤ بحوادث وشيكة الوقوع؛ ذلك أن من المشروع بالتأكيد بالنسبة إلى رجل استراتيجي أن يحاول التنبؤ بنتيجة معركة؛ وأن الحدود بين تنبؤ مثل هذا وعدد من التنبؤات التاريخية الشاملة أكثر إنما هي حدود مائعة. وهم يقرّرون أن مهمة العلم بصفة عامة هي إجراء تنبؤات، أو بالأحرى، تحسين تنبؤاتنا اليومية، وترسيخها على أساس أكثر أماناً، وأن مهمة العلوم الاجتماعية، بصفة خاصة، هي تزويدنا بتنبؤات تاريخية طويلة الأجل. وهم يعتقدون أيضا بأنهم قد اكتشفوا قوانين التاريخ التي تمكّنهم من التنبؤ بمسار الأحداث التاريخية.

ولقد جَمَعْتُ الفلسفات الاجتماعية المختلفة التي تتبنّى مزاعم من هذا النوع تحت اسم التاريخانية. وحاولتُ في مكان آخر، في كتاب «عقم المذهب التاريخي»(2) أن أناقش هذه المزاعم، وأن أبيّن أنها على الرغم من معقوليتها، فإنها تستند إلى سوء فهم جسيم لمنهج العلم، وخصوصاً إلى تجاهل التمييز بين التنبؤ العلمي والنبوءة التاريخية scientific prediction and historical prophecy. وبينما كنتُ منهمكاً في تحليل منهجي ونقدي لمزاعم التاريخانية، حاولت أيضاً أن أجمِّع مادة لتوضيح تطورها. والملاحظات التي جمَعتها لهذا الغرض أضحت الأساس لهذا الكتاب.

ويهدف التحليل المنهجي للتاريخانية إلى ما يشبه الوضع العلمي، ولم يهدف هذا الكتاب إلى ذلك. فالعديد من الآراء التي عبَّر عنها أصحاب هذا التوجه آراء شخصية بحتة. فما يُدين إلى المنهج العلمي هوالوعي أساساً بحدودها: فهي لا تقدم براهين، حيث لا شيء يمكن البَرهَنة عليه، وهي لا تتظاهر بكونها علمية، حيث لا يمكن تقديم أكثر من وجهة نظر شخصية. وهي لا تحاول أن تحلَّ نسقاً حديثاً للفلسفة محل أنساق فلسفية سابقة. كما أنها لا تحاول أن تكون مجرّد إضافة إلى كل هذه المجلدات التي تموج بالحكمة، وإلى ميتافيزيقا التاريخ والمصير، مثل تلك المنتشرة هذه الأيام. وإنما هي تحاول بالأحرى أن تبيّن أن هذه الحكمة التي تعتمد على النبوءة تضرُّ أكثر مما تُفيد. إن ميتافيزيقا التاريخ تعرقل تطبيق مناهج العلم المتدرِّجة على مشكلات الإصلاح الاجتماعي. وهي تحاول، فضلاً عن ذلك، أن تبيّن أننا قد نصبح صانعي مصيرنا عندما نتوقّف عن تقديم أنفسنا كأنبياء.

وفي محاولة لاقتفاء أثر تطور التاريخانية، وجدتُ أن الأسلوب المتواتر للنبوءة التاريخية، المنتشرة على هذا النحو وسط قادتنا المثقفين، لها وظائف مختلفة. إنها تدَّعي انتماءها إلى ما هو في أصله شكل من أشكال المبادرة، وأنها تمتلك قوّةً غير عادية للقدرة على التنبؤ بمسار التاريخ. فضلاً عن أن ثَمَّة فكرة شائعة تزعم أن القادة المثقفين يمتلكون مثل هذه المقدرة، وعدم امتلاكهم لها قد يؤدّي إلى فقدان تميُّز الطبقات. ومن ناحية أخرى فإن الخطر هنا يكمن في أن قدرتهم على ستر أنفسهم كمشعوذين ضئيل للغاية، حيث إنهم يستطيعون دائماً أن يشيروا إلى أن المسموح به بالتأكيد هو إجراء تنبؤات شمولية أقل، وأن الحدود بين هذه التنبؤات وما يقوم به الكهنة أو العرَّافون إنما هي حدود مائعة.

الصفحات