يتكئ فرحات على سيرته الذاتية ومحطاتها المؤثرة التي طبعت بميسمها شكل حياته ومزاجه الشخصيّ، ماراً باللحظات الأكثر حميمية وتأثيراً في ذاكرته، مستذكرا شخوصاً ولحظات حافظت على ألقها في ذاكرة الكاتب وظلت مُشعّة رغم مرور الزمن.
You are here
قراءة كتاب ريترو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
الممرّض الإنجليزي الوحيد الموجود في القرية. كان هذا الرّجل ضابطاً في الجيش الإنجليزي، تزوّج من سليمة، فتاة عربيّة مسيحيّة من البلاد واستقرّ عندنا. وقد شفاني الله بحسن دعوات جدّتي وأمّي ولم تفلت يومها عمّتي من " علقة " ساخنة تلقتها من أبي .
قلت إنّ عمّي كان موهوباً، بل متعدّد المواهب. فقد كان الكهربائيّ الوحيد في بلد يخلو من الكهرباء. لا أدري إن كان كهربائيّا معتمداً لكنّي أعرف أنّ لا شيء كان عصيّاً عليه. كانت القرية في تلك الأيام على وشك إيصالها بشبكة الكهرباء والنّاس يترقّبون بأمل وفرح كبيرين هذا الحدث. وحتّى يحصل ذلك كانت البيوت تجهّز نفسها للارتباط بالشبكة القطريّة.
في تلك الأثناء كان في البلدة جهازا تلفزيون لا يستقبلان إلا محطّة أو اثنتين وعلى الغالب محطّة واحدة، هي المحطّة اللبنانيّة للإرسال. توزّع هذان الجهازان في مقهيين، واحد في ساحة البلدة بجوار دار السّينما وهما ملك لشخص واحد والمقهى الآخر لا يبعد كثيراً لكنّه كان " مختصّاً " أكثر بلعب الورق وطاولة الشّيش بيش . في المساء، كان الرّجال يتوافدون إلى المقهى حيث يكتظّ المكان الّذي لا يتّسع لأكثر من خمسين رجلاً لمشاهدة المصارعة الحرّة أو فرقة زغلول الدّامور الزجليّة. في إحدى تلك الأمسيات اصطحبني أبي لمشاهدة المصارعة الحرّة للأخوين سعادة اللّذين حظيا بشعبيّة عالية وتشجيع كبيرين. رائحة البيرة " نيشر " كانت تعمّ المكان، وهي "الطلب"، أو إذا شئتم، ثمن التّذكرة لدخول المكان . جلست بجانب أبي على كرسيّ صغير أتنفّس رغماً عنّي روائح الكحول المنبعثة في ترقّب كبير لابتداء المعركة الّتي سيخوضها الأخوان سعادة .
وتبدأ المعركة ويبدأ معها هتاف الرجال وتشجيعهم . وفي عزِّ المعمعة يتعطّل الإرسال وتمتلئ الشّاشة بنقاط سوداء يظهر فيها أحياناً أشباح رجال يتحركون .
- وين عطا يا جماعة ؟ منشان الله جيبوه يشوف شو الخراب.
ويبدأ الرّجال كفرقة كورال: وين عطا، نادوا على عطا.
يأتي عمّي بعد فترة وجيزة ويصعد فوراً على سطح المقهى لإصلاح العطل. يبدأ بتحريك الأنتين شمالاً وجنوبا،ً شرقاً وغربا،ً سائلاً مع كل حركة: هيك مليح ؟ وبعد ربع ساعة أو أكثر يـُوفق في إعادة البث وينزل وسط تصفيق الرّجال وشكرهم.
- هاتولوا بيرة
شعرتُ بسعادة عارمة، تقدمتُ منه ورميت نفسي في حضنه.
بعد وفاته، غمرني حزن كبير، أمّا أبي فقد خبّأ راديو الترانزستور في الليوك، (خزانة توضع فيها الوسائد والفرش) لأكثر من سنة إشارة لحزننا على فقدانه.