يتكئ فرحات على سيرته الذاتية ومحطاتها المؤثرة التي طبعت بميسمها شكل حياته ومزاجه الشخصيّ، ماراً باللحظات الأكثر حميمية وتأثيراً في ذاكرته، مستذكرا شخوصاً ولحظات حافظت على ألقها في ذاكرة الكاتب وظلت مُشعّة رغم مرور الزمن.
قراءة كتاب ريترو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
2
باسترما أم إلياس
أمّ إلياس كانت امرأة عجوزا، أدارت كشكاً في باحة الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة. فيه من الساندويشات ما لذّ وطاب. كنا نتهافت عليها في الاستراحة الأولى، أي بعد درسين من بدء التّعليم، فتستقبلنا ببشاشة وبأمومة واضحتين. مكانها صغير ليس بعيداً عن مكاتب الإدارة. كانت تُعدّ للطلاّب كلّ صباح ساندويشات اللّبنة، الحمص والبسترما . لطالما تسابقنا عند قرع الجرس بالنّزول هرولةً إليها لنكون أوّل المشترين.
أم إلياس لم تبخل يوماً على أحد وإذا لم تتوفّر كميّة النّقود اللاّزمة للشّراء كانت تقول للطّالب " معلش يا حبيبي خود بتدفعلي بعدين".
أذكر أم إلياس ولا أنساها لأنّي أحببت ساندويشات البسترما إلى أبعد الحدود . والسّبب يعود إلى أنّ هذا النّوع من الطّعام لم يكن معروفاً لديّ قبل وصولي إلى حيفا لتلقّي العلم . كابن لقرية في أواخر السّتّينات، أقتصر طعامنا على ما يأكله الفلاّحون عادةً، من عدس وبرغل وبقوليّات، وأطباق النّواشف كما نقول، هذا، بالإضافة إلى القليل من اللّحوم والأسماك. البسترما لم تكن معروفة أصلاً ولم تسـّوق في قرانا أو على الأقل هكذا يخيّل إليّ .
كانت أم إلياس بارعةً في تحضير السّاندويشات إذ كانت تضع عليها قليلاً من الحمص والمخلّلات ثم تلفّها بمنديل ورقيّ أبيض يجعل لعابك يسيل قبل وصولها إليك.
أليس غريباً أن أبدأ حكايتي عن الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة بالحديث عن كشك أم الياس ؟ عندما أفكّر في الأمر قليلاً أدرك السّبب . أم الياس هي الإنسانة الوحيدة الّتي لم تبعث في نفسي الخوف أو القلق من المجهول . كانت بالنّسبة لي، بطاقة الدّخول إلى عالم غريب لم أستطع في البداية حلّ رموزه وكانت كما قلت ملاذنا، نركض إليها لنختبئ كلّ ساعتين من عبء الدّراسة دون أن توبّخنا أو تحمـّلنا هموم الدّنيا .
وبالرّغم من مرور الأعوام إلاّ أنّني ما زلت وفيّاً لذكرى أم إلياس ولساندويشات الباسترما . وبين الفينة والأخرى، وحين أريد أن أعدّ لنفسي شطائر الباسترما مع الخضروات، لا أضيف إليها أيّ طعم آخر، حرصاً منّي على عدم نزعِ مذاقها وفاءً لذكرى أم إلياس .