قراءة كتاب ريترو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ريترو

ريترو

يتكئ فرحات على سيرته الذاتية ومحطاتها المؤثرة التي طبعت بميسمها شكل حياته ومزاجه الشخصيّ، ماراً باللحظات الأكثر حميمية وتأثيراً في ذاكرته، مستذكرا شخوصاً ولحظات حافظت على ألقها في ذاكرة الكاتب وظلت مُشعّة رغم مرور الزمن.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
5
 
كيف لم أصبح مطرباً
 
في ظهر أحد الأيام الصّيفية، وأنا ما زلت في العاشرة من عمري، تقرّر مصيري، أو بالأحرى، ما لن أكونه أبداً. لم تكن لديّ إمكانية الاستئناف على هذا القرار فقد كان نهائيّاً وقطعيّاً.
 
وضعتْ أمي الطّعام على طبليّة ( طاولة قصيرة الأرجل ) وافترشنا الأرض حولها لتناول وجبة الغذاء. كان كلّ شيء في مكانه وأولّ الأشياء، راديو الترانزستور الصّغير. انتهت نشرة الأخبار الّتي كان يحرص أبي على سماعها من إذاعة لندن على خير أو ربما على شر، من يدري، بينما كان يرقبني كحارس أمين حرصاً منه على تناولي الطّعام، لأنّني لا أتناول إلا النّزر القليل منه ويحثّني على متابعة الأكل وأنا أتلكّأ في مهمتي .
 
ما زلت أذكر كيف كان يلحقني راكضاً وملعقة العسل في يده لإطعامي. وكم كنت أتضايق عندما ينجح في مهمّته لأنّ العسل كان يسبب التقرص في لساني ويكاد يخنقني بسبب اعتراضي ورفضي .
 
- كول يا ولد شوف صحابك قدك على مرتين – يقولها أبي بمرارة تارة وبضحكة تارة أخرى، ساخراً منّي كلّما تذكّر صوري المدرسيّة بين زملائي. والحقيقة، أنّه كان على حقّ في سخريته، فقد كنت أستعين برجمة من الحجارة للوقوف عليها، لكي أعادل طولهم . والغرابة في الموضوع أنّ جميع أصدقائي، بمحض الصّدفة أو ربما عن قصد، كانوا فارعي الطّول.
 
الراديو ما زال مفتوحاً وأسرتي السعيدة لم تنته من تناول الطعام بعد: "سيداتي سادتي، نقدّم لكم الآن أغنية لعبد الوهاب " ويبدأ موسيقار الجيل بالغناء وأبدأ بمرافقته بدوري دون استئذان بكلّ ما أوتيت من قوة وشجن. لم أتوقّع من أبي تصفيقاً لأدائي لكنّني لم أتوقّع أيضاً تلك الصّفعة المدويّة الّتي أخرستني في الحال.
 
توقّفنا عن الطّعام وتوقّفتُ عن الغناء، أمّا عبد الوهاب فلم يأبه لما حصل وكأنّه فهم أنّ الأمر ليس شخصيّاً، حيث تقاطعت عبراتي بآهاته المتعالية.
 
لماذا فعل أبي ذلك، هل خاف أن يخسرني ؟ أن يصبح أبنه مغنّياً لا سمح الله؟
 
هل يـُعقل أن لا يكون ابنه يوماً ما، طبيباً أو محامياً أو مهندساً، هذا الثّالوث المقدّس في عرف العقليّة العربيّة آنذاك ؟
 
مطرب؟ مشخصاتي؟ أرتيست ؟ .. ابني ؟
 
سامحك الله يا أبي . كيف فقد العالم العربيّ بصفعة منك مطرباً لامعا..!

Pages