ديوان "يوم قابيل والأيام السبعة للوقت" للكاتب والشاعر السوري نوري الجرّاح، الصادر عن "دار راية" في حيفا، يضم قصائد تستوحي أَجواء المحنة السورية الراهنة، والتي يطفر فيها الدم غزيراً، جرّاء توحش السلطة الحاكمة ضد الشعب السوري في ثورته.
You are here
قراءة كتاب يوم قابيل والأيام السبعة للوقت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
صحيح أنّ الجراح استقرّ على شكل قصيدة النثر طيلة 30 سنة من كتابة الشعر، ولم تشهد تلك التجربة انزياحات كبرى ملموسة تفيد الانتقال الطارىء إلى مستقرّ جديد، مختلف أو متنافر أو متعارض أو مباغت، يذهب بالشكل بعيداً عن المألوف، أو يقصيه إلى خيار نقيض ربما. وصحيح، من جانب آخر، أنّ موضوعات الجراح اتسمت بمقدار مماثل من الاستقرار، وسط سيرورة حيوية من الاغتناء والاكتساب والتشعّب المركّب، ناظمها المركزي ثنائية ديكارتية ذات شحنة عالية من تقابل الداخل والخارج، وتآخي الازدواج، واختلاط تاريخ الألم الفردي بتواريخ ألم جَمْعي، أقرب إلى الرثاء الكوني. صحيح، ثالثاً، أنّ قصيدة الجراح ـ وليس على غرار غالبية شعراء قصيدة النثر العربية، الحديثة والوسيطة والمعاصرة ـ اتسمت بنزوع غنائي دافق، بلغ مراراً شأو النشيد العميق ذي الغور السحيق، الذي يتوسل وعي مصائر الروح والجسد معاً، ويلتمس حسّ العذاب الإنساني وكأنه قدر تجب مقارعته من حيث تبدأ التراجيديات الكبرى، وإلى حيث تنتهي.
من الصحيح، في المقابل، أنّ هذه المجموعة لا تسعى إلى ما يُرضي القراءة الميسّرة، أو اليسيرة المألوفة التي تتصالح مع أواليات التذوّق الأبسط؛ بل هي تروم العكس، أغلب الظنّ: استفزاز القارىء، عن طريق اقتياده إلى هذه المطحنة الأسلوبية تحديداً، وهذه الوجهة من حشد خلاصات شعرية تنبسط على عقدين ونيف من كتابة شعرية دائمة التبدّل، رغم نهوضها على عناصر استقرار كثيرة، تخصّ الشكل أسوة بالمحتوى. ليس مرجحاً، في مثال تفصيلي أوّل، أن يظلّ الجهاز التخييلي والتصويري والتعبيري، اللغوي والشعوري، لشاعر مثل الجراح، على درجة من التجانس أو الاتصال أو التقارب في مجموعة واحدة تستجمع 22 سنة من التبدّلات، فتلبّي شغف القارىء إلى تذوّق سلس، غير شاقّ، أو غير مستفزّ. وكيف، في مثال ثانٍ، يفلح القارىء في التصالح مع عقدين ونيف من ثراء لغة شعرية تتسم، أصلاً، ببذخ معجمي كثيف، ميتافيزيقي وفلسفي وعالي الفصاحة، قد يبدأ من السطوح الخام للغة، وقد لا ينهي تمارينه عند أيّ من بواطنها الدلالية الأعمق، مجرّدة أم محسوسة؟
هذه فضيلة فنّية، بالطبع، لأنها في نهاية المطاف لا تدغدغ خمول القارىء بقدر ما تستحثّ فيه رياضات استقبال شتى، إيجابية وديناميكية، تتخذ صفة التحدّي تارة، أو صفة اقتراح تعاقد قرائي من نوع مختلف طوراً؛ أو تكتفي، في مواجهة خاصة أشدّ راديكالية، بانتهاج كتابة شعرية تمارس الفنّ بوصفه لعبة جمالية يقترحها شاعر فرد، وينخرط فيها قارىء فرد، فتسير على ما يرام مرّة، وتتعثر أخرى، وقد تتواصل على وفاق، أو قد تنهار على افتراق! ولقد كان في وسع الجراح، غنيّ عن القول، أن يغفل الإشارة إلى أنّ القصائد كُتبت على امتداد 22 سنة، فيترك للقارىء أن يتبيّن وجود تلك المطحنة الأسلوبية، أو أن يفوته هذا فيقرأ على منوال ما تهديه إليه طبائع القراءة الهيّنة وعادات التذوّق الأثيرة، فلا ضرر عندئذ ولا ضرار. وإذْ ألزم الجراح نفسه بواجب الأمانة لتاريخ النصّ الأدبي، فأشار إلى عمر المجموعة الزمني؛ فإنه، أغلب الظنّ هنا أيضاً، شاء إدخال القارىء في اللعبة الجمالية، فأخفى تاريخ كتابة كلّ قصيدة على حدة (باستثناء قصيدة «الأيام السبعة للوقت»، والتي استغرقت كتابتها سنة كاملة في كلّ حال)، واكتفى بإشارة تقول إنّ قصائد المجموعة كُتبت ما بين 1990ـ2012.