ديوان "يوم قابيل والأيام السبعة للوقت" للكاتب والشاعر السوري نوري الجرّاح، الصادر عن "دار راية" في حيفا، يضم قصائد تستوحي أَجواء المحنة السورية الراهنة، والتي يطفر فيها الدم غزيراً، جرّاء توحش السلطة الحاكمة ضد الشعب السوري في ثورته.
You are here
قراءة كتاب يوم قابيل والأيام السبعة للوقت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 3
II
لكن مجازفة نوري الجراح لا تنتهي هنا، بل تعقبها أخرى لا تقلّ حساسية، لأنها تخصّ مسألة شائكة بدورها، تحوّلت إلى ما يشبه «المحرّم» في قصيدة الحداثة العربية المتأخرة عموماً، وقصيدة النثر المعاصرة بصفة خاصة، وأعني موضوعة السياسة، أو الحدث السياسي الكبير الذي يخصّ حياة الملايين من قرّاء الشعر، في برهة وطنية بالغة الخصوصية. وإلى جانب مقدار هائل من اللبس، الصادق الطبيعي أو الكاذب المفتعَل، الذي اكتنف هذه المسألة، فطمس الكثير من عناصرها الجديرة بسجال رصين؛ شاع، في أوساط الشعراء خصوصاً، نوع من الافتراض المسبق، انقلب إلى ما يشبه التواطؤ الصامت، والمريح، مفاده أنّ هذه القصيدة رديئة بالضرورة، مسبقاً، وبالتعريف؛ أو هكذا يقول الدرس النقدي الحداثي، وتنظيرات بعض «كبار» شعراء الحداثة العرب.
والحال أنّ الجراح، في قصيدة «الأيام السبعة للوقت»، يستبطن الانتفاضة السورية الراهنة ("الثورة» كما يسمّيها)، وهي ليست الحدث الكبير الفاصل في حياة السوريين، والعرب، والمنطقة بأسرها ربما، فحسب؛ بل هي أيضاً، وهو الاعتبار الأهمّ في فنّ الشعر، حدث ما يزال مفتوحاً على احتمالات شتى، حتى إذا كانت نهاياته تؤكد انتصار الشعب السوري على نظام الاستبداد والفساد والتوريث. ورغم أنّ القصيدة لا تشير، على أيّ نحو تقريري أو مباشر أو خطابي، إلى هذه الانتفاضة؛ ولا تلجأ إلى توصيفها، كذلك، بصفة إسمية واضحة تُدني القصيدة من التسجيل، في أيّ مستوى؛ فإنّ إهداء القصيدة لا يترك هامشاً للشكّ في حقيقة محتواها: «إلى رامي ورفاقه في الثورة السورية». هنا، إذاً، وجه أوّل لمجازفة كتابة قصيدة لا تُشتمّ منها «روائح» السياسة، كما قد يقول قائل من أرباب حداثة الأبراج العاجية، فقط؛ بل تفوح منها روائح الدماء، أيضاً (مفردة «دم» تتكرّر 67 مرّة، على امتداد القصيدة)!
غير أنّ الجراح شاعر حداثي، من رأسه حتى أخمص قدميه، وبالمعنى الأكثر نضجاً على صعيد النصّ الشعري ذاته، وبين الأفضل إدراكاً لمشكلات وإشكاليات حداثة زائفة، ناقصة ومنتقصَة على مستوى التبشير النظري والانحيازات العصبوية. ولهذا فإنّ قصيدته عمل رفيع يتوسل جماليات الشعر أوّلاً، بل لعلّه لا ينساق إلى اعتبارات أخرى غير كتابة قصيدة فائقة القيمة، عالية التعبير، جديرة بواقعة عظيمة الشأن مثل الانتفاضة السورية. إنه لا يقمع ضغوطات التاريخ على الحياة البشرية، وعلى فنون البشر استطراداً، ولكنه لا يكفّ عن مقاومة تكبيل القصيدة بأي نير، أو حتى بخيط حرير رفيع، ذي مدلولات سياسية مباشرة؛ رغم أنّ حدثاً مثل الانتفاضة السورية كفيل بإفراز أنساق متشعبة من أحاسيس الواجب، وفرائض الوفاء لتضحيات الشعب، وإغواءات التقاط الموقف الفريد والانخراط في سياقاته. وهذا التاريخ، بصفته القوّة التي تحرّك المجتمعات وتسجّل صراعاتها المختلفة ونقلاتها الكبرى، هو محرّك السياسة أيضاً، بل السياسات الأعلى العابرة لليوميّ؛ ولهذا فإنه، في الحصيلة المنطقية، كان محرّك أعظم الأعمال الفنية التي كرّمت ثورات الشعوب من أجل الحقّ والحرّية والكرامة، وبينها أمهات القصائد على مرّ التاريخ.
يدرك الجراح هذه المعادلة، وينفّذ حصّته من شروط التعاقد معها، فيقترح قصيدة/ أنشودة طافحة بالقوّة الأخلاقية، قبل الشجن والأمل والألم، وفيّة لكلّ الجماليات الفاتنة التي اتسمت بها قصيدته، حيث المفردة ميدان استعاري في المقام الأوّل، والمعنى مجمع دلالة، والعمارة الإيقاعية زاخرة بتكوينات تشكيلية تعددية، والنبرة تلمّ شتات الأصوات والضمائر، والمشهد يتدرّج وفق متواليات بصرية وصُوَرية تنتظمها تلك الفاتحة/اللازمة المشحونة، التي تنوس بين الترنيمة والكابوس: «دمُ مَنْ هذا الذي يجري في قصيدتكَ أيها الشاعر؟». تمرّ في القصيدة مفردات مثل «مركبات» و«جنازير» و«شاحنات» و«جثمان» و«مشيعون» و«شهيد» و«جنود» و«بنادق» و«قتل» و«مقنوص» و«قبور» و«رصاص»و«جسد مسجى»، وسواها... لكنها، كمفردات في ذاتها أو في ما تدلّ عليه، لا تنفرد بأي معنى مباشر يقود إلى حدث الانتفاضة، بقدر ما تقتاد الإيحاء إلى حيث يفعل الشعر الرفيع: فضاءات الدلالة المفتوحة، غير المقيّدة، غير المحددة، غير المنكمشة في أيّ سياق تقريري.
هذا هو الشعر ذو الدور الحيوي الخاصّ، الشاقّ والشيّق في آن: تحويل التجارب المعاشة إلى انسراح طليق للمخيلة، وإلى توسطات فنّية متعاقبة الوظائف، تجسّد ضغوطات الحدث، ومسار التاريخ الراهن ذاته، في قِيَم جمالية وتعبيرية تنتهي إلى إبلاغ سلسلة من الرسائل (تخليد واقعة، نقد مؤسسة أو سلطة، امتداح قيمة، الانخراط في قضية، الحضّ على فعل...). وليس للقصيدة، في تطلعها إلى هذه الوظائف، أن تنجح على النحو اللائق بطموحات وظائفها هذه، إلا إذا أفلحلت جمالياتها في التشديد على المضامين الثقافية والإنسانية الأعمق خلف كل رسالة، وطيّ كلّ اجتهاد أسلوبي لتحويل قوّة الشعر إلى قوّة اجتماعية وبشرية، حيث السياسة محض تفريع واحد بين تفريعات لا عدّ لها. هكذا يصحّ أن يُقرأ، على سبيل المثال، المقطع التالي: